خط وقف إطلاق النار مع الجولان المحتل (2)

كان يوماً أسودَ، جارحاً، جرحه ما زال يدمي في قلوب جيلنا وأجيال من بعدنا. في ذاك اليوم الخامس من حزيران/يونيو 1967، كان يوم امتحانات الشهادة الثانوية، وجميع الطلاب منكبّون على أوراق الامتحانات عندما سمعوا، ككل الدمشقيين، أصوات طائرات تخترق حاجز الصوت وتدوي في الآذان بانفجارات. عندما نظرنا من النوافذ كانت طائرات الميراج الإسرائيلية تعربد في سماء دمشق.

كانت الصدمة كبيرة، وكبيرة جداً. كيف لطائرات العدو أن تصل إلى دمشق؟ أين الدفاعات الجوية؟ أين المقاتلات السورية؟ ماذا يحصل؟ كانت المفاجأة الأكبر أن وزير الدفاع حينها حافظ الأسد، وعبر أثير إذاعة دمشق، يعطي أوامره بالبلاغ رقم (66) بانسحاب الجيش السوري من جبهة الجولان بذريعة أن جيش العدو دخل مدينة القنيطرة.

كانت الصدمة أكبر بكثير للضباط المتواجدين على الخطوط الأولى في الجبهة وفي القنيطرة، الذين لم يروا جندياً واحداً من العدو دخل القنيطرة. فلماذا هذا الأمر من وزير دفاع يُفترض منه أن يرفع معنويات جيشه لمواجهة العدو بدلًا من أمره بالانسحاب؟ هناك من تمرّد على البلاغ فأُعدم، ومن انصاع للأوامر فانسحب الجيش دون قتال.

ولا يزال التساؤل الكبير مطروحاً: لماذا تم إصدار هذا البلاغ والجولان هضبة منيعة عصيّة، شاهقة، صعبة المسالك، حتى النسور تكلّ في التحليق للوصول إلى القمة؟ لا يوجد جواب مقنع سوى الخيانة وبيع الجولان بالمقايضة السياسية: دعم الأسد للوصول إلى السلطة، وضمان بقاء واستمرارية النظام مقابل تسليم الجولان وعدم المطالبة به، والامتناع عن التصدي للعدو طالما استمر هذا النظام.

وهذا ما تم، ولإكمال المسرحية الهزلية شارك النظام السوري في حرب أكتوبر للوصول إلى اتفاق فصل القوات، الذي كان بمثابة التخلي التام عن الجولان. فخلال عهد الأسدين، الوالد والابن، ميتين أو فارّين، لم تُطلق رصاصة واحدة باتجاه فلسطين المحتلة رغم كل الاعتداءات الإسرائيلية التي أصبحت روتينية، وكأنها نزهة أسبوعية لطائرات العدو في سماوات سوريا، تستمتع بقصف ما يحلو لها دون حسيب أو رقيب، أو مدافع كما كان يدّعي “الفارّ الممانع”.

اليوم يتمادى العدو ويُكمل اعتداءاته ويحتل أراضي جديدة، ويتنقّل في الجنوب السوري حسب رغبته، ووجد من يتكئ عليه ليبرّر تدخّلاته، فهناك من يرفع أعلامه ويطالب بالانفصال والحماية. لكن يبقى الجولان في وجدان كل سوري، فلا يمكن التخلي عن شبر واحد منه. فالخائن الذي باعه بثمن بخس مات، ووريثه الخائن للوطن والشعب فرّ، والقرار (242) للأمم المتحدة، الذي ينص على الانسحاب من الجولان، لا يسقط بالتقادم رغم قرار الكنيست بضمه عام 1981.

الوريث الهارب فرّ وترك خلفه كل جرائمِه وجرائمَ مورّثه، ومنها التخلي عن الجولان أو بيعه كما يقول البعض. واليوم لا بد من المطالبة به دبلوماسياً بإلحاح، فالحرب لم تعد خياراً لسوريا المنهكة التي فقدت قدرتها عليها، والأهمية اليوم في إعادة الإعمار، وإصلاح الاقتصاد المنهار بعد أن نهب بشار الفارّ كل مقدّرات سوريا، وحوّل أموالها إلى موسكو.

كما يجب ضبط الأمن في البلاد بعد أن حاولت فلول النظام العبث بأمن المواطنين، في وقت ما تزال فيه قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على ربع مساحة البلاد وتطالب بالاستقلال الذاتي. لكن ذلك لا يُلغي مسؤولية المجتمع الدولي، الذي يغضّ الطرف عن اعتداءات دولة الاحتلال، في اتخاذ إجراءات رادعة والدخول في مفاوضات للانسحاب من الأراضي المحتلة بعد سقوط النظام البائد، وعلى رأسها الجولان المحتل بأكمله.

فإنّ هذه الاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية والمواطنين في الجنوب، والتدخل في الشؤون الداخلية السورية، لم تعد مقبولة لا قانونياً ولا وطنياً، وسيبقى الجولان المحتل في وجدان كل سوري.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top