الدمار جنوب دمشق

على أطراف دمشق، تمتد بلدات وتجمعات تشبه المدن الصغيرة في عدد سكانها، لكنها تعامل كأنها لا تنتمي إلى أحد.. جديدة عرطوز، مخيم الوافدين، سبينة، الذيابية، الحسينية، الحجر الأسود… أسماء لمناطق يعرفها السوريون جيداً، لكنها اليوم تختصر ستون عاماً من الخذلان الحكومي والتغريبة الممنهجة التي فرضها نظام الأسد الأب الهالك، ومأساة الإبادة والتهميش التي أكملها الأبن الهارب خلال عقد ونيف من الحرب والانهيار.

هنا، يعيش عشرات الآلاف من أبناء الجولان والنازحين من الجنوب السوري في واقع لا يمكن وصفه إلا بأنه “اللامكان”. فهذه المناطق إداريا تتبع لمحافظة القنيطرة، لكن مركز المحافظة بعيد، وأجهزتها التنفيذية عاجزة عن إدارة تجمعات ضخمة تقع فعليا ضمن دمشق وريفها. النتيجة أن السكان عالقون بين إدارتين، فلا خدمات حقيقية من القنيطرة، ولا صلاحيات كافية لدمشق وريفها.

بين التبعية الإدارية والتهميش اليومي

منذ سنوات، يطالب الأهالي بحلول إدارية مرنة تسمح بتفويض البلديات المحلية لتأمين الخدمات الأساسية دون انتظار قرارات معقدة من مركز القنيطرة. فكيف يمكن لموظف بتوصيف مدير في خان أرنبة مثلا أن يتابع أعطال الكهرباء في جديدة عرطوز، أو أزمة المياه في مخيم الوافدين؟ الواقع يقول إن الفجوة بين الإدارتين خلقت طبقة من الإهمال اليومي، يشعر بها الناس في كل تفصيل من تفاصيل حياتهم.

فالطرقات متهالكة والمدارس مكتظة وتفتقر للكوادر، والاتصالات أضعف من أن تسمح بإرسال صورة الى مركز المحافظة عبر واتساب، أو بدرس إلكتروني لطالب ثانوي أو حتى عمل عن بعد. لا أبراج خلوية كافية، ولا نقاط إنترنت تغطي الأحياء.. في بعض القرى، يضطر السكان للوقوف في مكان محدد داخل المنزل كي تصل الإشارة، وكأننا ما زلنا في زمن التجارب الأولى للهواتف المحمولة.

الفقر يلتهم التعليم والخدمات

في هذه المناطق، لا يحتاج الفقر إلى إحصاءات ليرى. البيوت مكتظة، وأجور العمال اليومية بالكاد تكفي الطعام!!. كثير من العائلات لم تعد قادرة على إرسال أبنائها إلى المدارس البعيدة أو دفع تكلفة النقل أذا توفر أصلا، فصار التعليم رفاهية مؤقتة. والمدارس الحكومية قليلة، وغالباً بلا معلمين متخصصين، لأن الكفاءات تهاجر نحو العاصمة أو خارج البلاد بحثا عن دخل أفضل. حتى المنظمات المدنية التي يفترض أن تساند، تكاد ان تكون غائبة. أغلب مشاريع الدعم تنفذ في مراكز المدن، فيما تبقى تجمعات الجولانيين بلا برامج دعم حقيقية. وهذا الغياب لا يعني فقط نقصا في المساعدات، بل حرمانا من أي مبادرات تطويرية يمكن أن تنعش المنطقة وتخلق فرص عمل صغيرة.

كيف حلت دول أخرى أزمة النزوح الداخلي؟

عشرات الدول عاشت تجربة مشابهة بعد حروب أو نزوح داخلي واسع، لكن الفارق أن بعضها تعامل مع هذه التجمعات بوصفها جزءا من المجتمع، لا عبئاً عليه. في جورجيا مثلاً، بعد نزوح مئات الآلاف من أبخازيا، تم دمج النازحين في التجمعات الحضرية عبر خطط إسكان مشتركة ونقل مزانيات الخدمات تدريجياً إلى إداراتهم المحلية الجديدة. لم تنشأ مناطق انتظار (مخيمات)، بل أحياء متكاملة داخل المدن.

وفي كولومبيا، حيث عانى ملايين من النزوح بسبب الصراع الداخلي، أُقرت قوانين تتيح للنازحين الحصول على نفس الحقوق البلدية والتعليمية التي يحصل عليها المواطن المقيم في نفس المدينة، بغض النظر عن أصل السكن. هذا الدمج التدريجي رفع من سوية المعيشة وأعاد الإحساس بالمواطنة.

النقطة الجوهرية في تلك التجارب كانت المرونة الإدارية والاعتراف بالمواطنة الكاملة لا الشكلية. فحين يعترف بالنازحين كجزء من النسيج الدائم للمدن، تتحول المشكلة من عبء إنساني إلى فرصة تنموية.. وعندها فقط ينتهي التمييز العنصري الذي يتعرض له أبناء الجولان من أبناء الوطن الواحد.

في سوريا، وخاصة في تجمعات نازحي الجولان في محيط دمشق، يمكن تبني مقاربة مشابهة ك: تحويل هذه المناطق إلى وحدات إدارية محلية مستقلة بدعم حكومي بتمثيل فعلي وسلطات خدمية مباشرة. ونقل بعض المكاتب الخدمية من القنيطرة إلى داخل هذه التجمعات. ودعم مشاريع الإسكان والبنية التحتية الصغيرة التي تدمج السكان في الاقتصاد المحلي بدلا من عزلهم في هوامش العاصمة.

ليست القضية تمويلاً ضخماً ولا خططا أممية، بل رؤية تنطلق من فكرة أن المواطن النازح هو جزء من المستقبل، لا بقايا الماضي. هذه حلول واقعية لا تحتاج إلى تمويل خارجي ولا إلى انتظار طويل. لكنها تحتاج فقط إلى قرار، وإلى إدارة تتعامل مع الناس على أنهم مواطنون لهم حقوق، لا نازحون ينتظرون العودة.

بين الجنوب والجولان… ضياع الهوية الإدارية

أخطر ما في المشهد أن هذه التجمعات فقدت وضوح انتمائها الإداري. فهي من حيث السجلات تابعة للقنيطرة، لكن واقعها اليومي يتصل بريف دمشق اقتصادياً وخدمياً. هذا التشابك جعلها بلا صوت واضح في التخطيط ولا نصيب في الميزانيات. كل جهة تعتبرها (مسؤولية الآخر)، فيما الناس يدفعون الثمن بصمت وألم.

في مخيم الوافدين مثلا، الكهرباء تنقطع لساعات طويلة جدا، والمياه تصل كل أسبوع أو أكثر لمرة واحدة ولساعات قلية فقط، والطرقات نسيها الزمن ناهيك عن تردي الاتصالات السلكية واللاسلكية والمواصلات العامة والافتقار شبه التام للخدمات الصحية. في جديدة عرطوز، الحارات التي يسكنها الجولانيون هي الأقل حظاً في الصيانة والخدمات. أما في الحسينية والسبينة، فالمشهد يشبه لوحة رمادية من التعب والإهمال، حيث غابت الدولة والمنظمات معا، وحل مكانهما انتظار طويل.

في الختام

الحديث عن أهالي الجولان ليس عاطفياً، بل واقعي حد الألم. التهميش هنا لم يعد مسألة سياسية، بل معيشية يومية. وهذه المناطق، إن لم تعامل كجزء من خطة تنموية جديدة، ستتحول فعلا إلى أحزمة بؤس تلتهم محيط العاصمة.

الناس لا يطلبون المستحيل، بل الاعتراف بوجودهم. يريدون طريقاً صالحاً، ومدرسة مؤهلة، وشبكة خلوية لا تنقطع، وإدارة تعرف كيف تنصت. فربما آن الأوان أن يسمع أحد!!، الفرصة ما زالت موجودة، لكنها تتآكل بسرعة. فكل يوم يمر بلا خطة جادة هو دفن جديد لأحلام آلاف الأطفال الذين ولدوا على هامش الخريطة، وكأنهم خارج الوطن وهم في قلبه. وإن استمر هذا التجاهل، فليس الفقر وحده ما سيتفاقم، بل الغضب أيضا، والغضب حين ينفجر لا يبني وطنا، بل يدفنه من جديد.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top