انفو غرافيك تحقيق من إعداد مؤسسة جولان خاص

يشكّل الحق في التقاضي إحدى الركائز الجوهرية في أي دولة تؤمن بسيادة القانون، إذ تضمن التشريعات السورية، نظريًا، منظومة متكاملة من الحقوق والإجراءات التي تبدأ بحياد القاضي وتنتهي بصون حق الدفاع والطعن. غير أن هذه المنظومة تفقد معناها حين تتحول أضابير القضايا، وهي الحافظة الرسمية للحقائق والأدلة، إلى أوراق تائهة بين ركام القصور العدلية ومكاتب مهملة بحجة الترميم أو التلف.

تشمل الحقوق القضائية في القانون السوري الحق في التقاضي المكفول قانونًا، وحقوق محاكم الموضوع التي تختص بالنظر في الدعاوى، بالإضافة إلى حقوق الإجراءات القضائية مثل حق الطعن في الأحكام، وحقوق الخصوم كالحق في المساعدة القضائية لمن لا يملكون الموارد المالية.

أضابير القضاء والمحاكمات هي مجموعة من الملفات والسجلات الرسمية التي تتضمن كافة الأوراق والمعلومات المتعلقة بالقضايا المرفوعة أمام المحاكم. تشمل هذه الأضابير المستندات مثل صحائف الدعوى، الأدلة، المذكرات القانونية، ونسخًا من الأحكام القضائية، وتقوم كتابات المحاكم بترتيبها وتنظيمها حسب تسلسل تواريخ تقديمها. دورها الأساسي هو حفظ سجلٍّ دقيق ومنظَّم لكل قضية لتسهيل تتبّع مسارها وضمان سير العدالة.

تكمن أهمية الحفاظ على الأضابير والوثائق القضائية في كونها أدوات أساسية لضمان العدالة، حيث توفّر الأدلة، وتوثّق الحقائق، وتحفظ السجلات التاريخية والقانونية، كما تعزّز الشفافية، وتساعد في اتخاذ القرارات السليمة، وتضمن استمرارية سير العمل القضائي.

توجد قوانين سورية تنظم حفظ الوثائق والأضابير القضائية، وأبرزها المرسوم رقم 99 لعام 2016 الذي ينصّ على إنشاء مستودع مركزي في كل محافظة لحفظ الأمانات والمواد الجرمية وأضابير الدعاوى والسجلات. يحدّد المرسوم آلية حفظ وتسليم الأضابير، وينصّ على حفظ الموافقات الخطية اللازمة للحصول على البيانات، ويُلزم أمين المستودع بإمساك سجلات ورقية وإلكترونية مختلفة لتوثيق كافة العمليات.

كما أصدر وزير العدل مظهر الويس القرار رقم /15/ المتضمّن ترتيب الآثار القانونية للأحكام والقرارات والأسناد التي أصدرتها وستصدرها المحاكم في الشمال السوري.

بين الركام وضياع السجلات… حقوق السوريين معلّقة على “إضبارة” مفقودة.
زرنا القصر العدلي في دمشق، فصُدمنا بوجود الأضابير القضائية والوثائق بين الأنقاض والردم الناتج عن عمليات الترميم التي تقوم بها الجهات المختصة. تقول المحامية (ع. أ): “إن الدعاوى العقارية كلها تُرفع بموجب وضع إشارة، وقبل أن تُسمع الدعوى توضع الإشارة، وهناك عقارات كثيرة عليها إشارات منذ الثمانينيات وما قبل، وهذه الإشارات لا يمكن رفعها بدون وجود الملف الذي تم بموجبه وضع الإشارة. وبالتالي، فإن هذه الأضابير المهملة والملقاة بين الأنقاض، والتي قيل إنها للإتلاف، تحوي حقوق أشخاص لا يمكن أن تعود إليهم إلا في حال لجؤوا إلى طرق أخرى قد تكون غير شرعية”.

وتضيف المحامية: “لديّ عقارات في الزبداني لأحد موكلينا، ويمكنني تزويدكم برقم العقار، وحتى اليوم أبحث عن أوراق الدعوى التي تخصّها بحجة أنها أُتلفت أو اختفت نتيجة التفجير الذي طال القصر العدلي في 15 آذار 2017”.

وتعتقد المحامية أن الإهمال الذي طال الوثائق في القصر العدلي وانتشارها بين الردم نتيجة عمليات الترميم، وإهمال الجهة المنفذة لأعمال الترميم والجهة المسؤولة عن حفظ الأضابير القضائية في المحكمة، هو السبب الرئيسي لفقدان وضياع الوثائق المطلوبة. بالمقابل، فإن عملية الإتلاف يجب أن تكون بشكل قانوني، وذلك بإحضار الإضبارة وتسجيل محتواها وحفظ ما فيها، وأخذ صورة عن القرار، وإعلام الجهات بإتلافها قانونيًا، وتسجيلها في جداول خاصة بالإتلاف.

من جهته قال (ح. م) “فضّل عدم ذكر اسمه”: “لديّ إضبارة دعوى احترقت بسبب الانفجار الذي حصل في القصر العدلي، ومن طبيعتي الاحتفاظ بنسخ ضوئية وورقية عن كل مستند إداري أو قضائي أو ضبط. سألت رئيس ديوان المحكمة فقال: لم تردهم تعليمات بالترميم للدعاوى المحترقة من الوزارة”.

أهمية الحفاظ على الأضابير والوثائق القضائية

  • توثيق الحقائق والأدلة: تعتبر الوثائق القضائية دليلًا أساسيًا في نظر القضايا، حيث توثّق الحقائق وتقدّم الأدلة التي تساعد في اتخاذ قرارات عادلة ومستنيرة.

  • يضمن الحفاظ على الوثائق بشكل منظّم تعزيز الشفافية في النظام القضائي ويقلّل من احتمالية حدوث أخطاء أو تلاعب.

  • تتيح عملية الحفظ السليم للوثائق إنشاء سجلٍّ قضائي شامل يمكن الرجوع إليه مستقبلًا، سواء لأغراض المراجعة أو الدراسات التاريخية والقانونية.

التوثيق القانوني:
تساعد الوثائق القضاة في الوصول إلى المعلومات الضرورية وتوجيههم في أحكامهم، مما يساهم في تسريع البت في القضايا وتوحيد الإجراءات.
تحتوي الوثائق القضائية على إثباتات لحقوق وواجبات الأفراد والمؤسسات، مثل عقود البيع والشراء والقرارات التشريعية، وبالتالي فإن الحفاظ عليها يضمن حماية هذه الحقوق.
عندما يتم توثيق العقود والوكالات بشكل سليم، فإن ذلك يعزّز الثقة بين الأطراف ويؤكّد جدية الالتزام بتحقيق العدالة وتسليم الحقوق. كما تساهم السجلات القضائية في تسهيل وتسريع تنفيذ الأحكام القضائية المختلفة، مثل أحكام إخلاء العقارات.
تساعد الوثائق أيضًا في دعم الأعمال الإدارية الجارية للمؤسسات القضائية وتوفير المعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات الإدارية.

التوثيق القانوني وأثره على حماية الحقوق

يضمن التوثيق القانوني حماية الحقوق القانونية لجميع الأطراف المتعاقدة، مما يقلّل من احتمالات النزاعات القانونية مستقبلًا. فوجود عقد موثّق يمكن استخدامه كدليل قانوني في حال نشوء خلاف بين الأطراف.
عند توثيق العقود أو الوكالات، يتم تعزيز المصداقية والثقة بين الأطراف المتعاملة، سواء كانوا أفرادًا أو شركات، إذ يعكس التوثيق جدية الالتزام بشروط العقد.
يمنع التوثيق القانوني التلاعب أو التزوير في المستندات، حيث يتم تسجيل المعاملات بشكل رسمي في الجهات المختصة، مما يصعّب على أي طرف تعديلها بعد توقيعها.
كما يساعد على تسهيل تنفيذ الالتزامات، إذ يمكن استخدام المستند الموثّق كدليل رسمي لتنفيذ الالتزامات عبر الجهات القانونية المختصة.

توثيق العقود إلكترونياً

يُفترض أن تبدأ وزارة العدل العمل على برنامج لتوثيق العقود إلكترونيًا، بحيث يسمح للمستخدمين من محامين ومحاكم بإنشاء وتوثيق وإدارة العقود القانونية بشكل رقمي، ما يساهم في تقليل الوقت والتكلفة المرتبطة بالتوثيق التقليدي.
تتميّز برامج التوثيق الإلكتروني بسهولة الاستخدام وسرعة الإجراءات وإمكانية الوصول إلى العقود في أي وقت ومن أي مكان، مع تقليل المخاطر القانونية بفضل حفظ المستندات رسميًا بطريقة آمنة تمنع ضياعها أو تعديلها دون إذن.

بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، زادت التعاملات القانونية والقضائية، وأصبح التوثيق القانوني ضرورة أساسية لحماية الحقوق وضمان تنفيذ الالتزامات. يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهمية التوثيق القانوني في حماية حقوق المواطنين السوريين ممن سلبهم النظام السابق حقوقهم وحرياتهم الشخصية أو العقارية، وما تبعها من اعتداءات على الملكيات لمواطنين معارضين أو مشاركين في الثورة، من خلال وكالات مزوّرة وعقود بيع غير قانونية وشهادات وفاة مزوّرة.

استقلالية القضاء والإصلاح القانوني

يؤكّد المحامي علي الزير أن الجهاز القضائي يجب أن يتمتع باستقلالية تامة تضمنها الحكومة السورية من خلال المتابعة المستمرة، مع ضرورة مراجعة القوانين بما ينسجم مع الإعلان الدستوري الحالي، الذي ينصّ في بدايته على أن الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها سوريا تُعدّ جزءًا من القانون السوري الواجب الإصلاح وفقًا لتلك الاتفاقيات.

وأضاف أن أغلب القوانين السورية، لا سيما القديمة منها الصادرة في الأربعينيات والخمسينيات، ما زالت تُستخدم، وتحتاج إلى إعادة صياغة شاملة لإنتاج منظومة قوانين حديثة، خصوصًا قوانين أصول المحاكمات المدنية والجزائية.

كما دعا إلى اعتماد الوسائل الإلكترونية الحديثة، مثل التبليغ القضائي عبر البريد الإلكتروني أو منصات التواصل الاجتماعي الرسمية بدلًا من اللوحات الورقية في المحاكم، مؤكدًا أهمية استقلال السلطة القضائية وتفعيل عمل المجلس التشريعي.

وأشار إلى ضرورة اطلاع الرأي العام على إنجازات وزارة العدل ونشرها في الصحف الرسمية لتكون بمتناول الجميع.

القوانين والمحاكم السورية بين الإصلاح والإهمال

عند سؤال القاضي المنشقّ والمعاد إلى منصبه “أنور مجنى” عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية ووزارة العدل للحفاظ على الوثائق القانونية، أوضح أنه لم يُتخذ حتى الآن أي إجراء قانوني محدد، وأن العمل يتم وفق الإجراءات التقليدية القديمة. وأضاف أن كثيراً من المحاكم توقفت عن العمل أو انخفضت فعاليتها نتيجة الاستهداف المباشر والحرق، مشيرًا إلى أن الوثائق التي فُقدت تقتصر على تلك الموجودة في القصر العدلي باللاذقية نتيجة احتراقه.

الإصلاح القضائي والعدالة الانتقالية

التغيير الذي قامت به الحكومة السورية جاء إنصافاً للقضاة الذين تعرّضوا للإقصاء بسبب مواقفهم المناصرة لقضايا الشعب، إذ صدر المرسوم الرئاسي رقم 70 بإعادة القضاة المنشقين عن النظام البائد، في خطوة تعكس حرص الدولة ووزارة العدل على إعادة الثقة بالمؤسسة القضائية وتعزيز العدالة.

وتُعدّ هذه المبادرة خطوة أساسية في ترسيخ مبادئ العدالة والمساواة وتعزيز استقلالية القضاء كركيزة للدولة، بينما تواصل وزارة العدل جهودها لتطوير آليات العمل القضائي وتوفير بيئة قانونية عادلة تضمن حقوق الجميع.

وفي الوقت الذي تتزايد فيه مطالب السوريين باستعادة حقوقهم، ولا سيما العقارية منها، ومع الحديث عن إعادة القضاة المنشقين كخطوة ضمن مسار العدالة الانتقالية، يبرز سؤال أكثر إلحاحاً: كيف يمكن تحقيق العدالة بينما وثائقها القانونية نفسها مهددة بالضياع أو الإتلاف؟

  • جيهان الأحمد

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top