صورة تظهر أماكن المقابر الجماعية في البادية السورية المصدر رويترز

إن ما حدث في الأراضي السورية خلال أحداث الثورة السورية، هو عملية منهجية من نظام دموي استخدم مقابر جماعية كأداة لإخفاء الحقيقة، وقام بنقل آلاف الجثث مع تراب الأرض التي دُفنوا بها، من موقع الدفن في القطيفة إلى صحراء الضمير، لضمان ألّا أحد سيسأل. هذا ما توصل إليه تحقيق رويترز في أكتوبر 2025، والذي يُعد من أكبر ملفات الانتهاكات الموثقة في الثورة السورية.

بحسب رويترز، بين عامي 2019 و2021 نفّذ نظام المجرم بشار الأسد عملية سرية تحت اسم رمزي يُطلق عليها (Operation Move Earth) أي “عملية نقل الأرض”، لنقل آلاف الجثث من موقع المقبرة الجماعية في القطيفة إلى موقع آخر أكثر عزلة وبُعدًا عن الناس في صحراء الضمير.

في الموقع الجديد ضبطت رويترز وجود 34 خندق دفن بطول إجمالي يقارب كيلومترين، مما يجعله من أضخم المقابر الجماعية المكتشفة حتى الآن في الحرب السورية.

حسب الشهود، منهم سائقو شاحنات، وميكانيكيون، وضباط سابقون، أفادوا بأن العملية كانت تُجرى ليليًا، وبمعدل أربع ليالٍ أسبوعيًا تقريبًا، باستخدام ما بين ست إلى ثماني شاحنات في كل ليلة.

تحقيق الصور الفضائية والدرونز وتحليل التربة أظهرا أن التربة في موقع الضمير كانت أكثر حُمرة من المناطق المحيطة، ما يدلّ – حسب الخبراء الجيولوجيين – على أن التربة والجثث نُقلت معها.

موقع القطيفة بدأ يُستخدم كمقبرة جماعية منذ نحو عام 2012، حين شهد النظام البائد أعلى ذروة في الاحتجاز والتعذيب في المعتقلات والمستشفيات العسكرية خلال الثورة السورية.

الشهود قالوا إن هدف عملية النقل كان تخليص الموقع الأصلي من الأدلة أمام المجتمع الدولي – بنصيحة من داعمي النظام البائد الروس – إذ إن النظام البائد حينها كان يسعى لاستعادة شرعيته وخفض الحرج الدولي.

مع العلم أن عدد المفقودين والمختفين قسريًا في سوريا يُقدّر بأكثر من 150 ألف شخص، حسب تقديرات محققين دوليين، وحوالي 300 ألف شخص بتقديرات ناشطين محليين.

من ناحية التوصيف القانوني الدولي:
ما حدث يدخل ضمن نطاق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (اختفاء قسري، تعذيب، قتل غير مشروع، دفن جماعي، وإخفاء أدلة)، وقد كان ذلك وفق التسلسل العسكري والإداري من أعلى هرم السلطة، المجرم بشار الأسد، وبمعرفته المباشرة.

من الناحية الإنسانية:
إن آلاف الأسر لا تزال بلا معرفة بمصير ذويها، وعمليات النقل الفوضوية تجعل من عملية تحديد هوية الضحايا واستخدام الحمض النووي أمرًا غاية في الصعوبة، بحسب خبراء العدالة الانتقالية.

من الناحية السياسية:
إن النقل السري بهذه الطريقة يشكل رسالة مفادها أن النظام الدموي البائد كان واعيًا تمامًا بأن ما يفعله ليس مقتصرًا على أعمال فردية، بل جزء من استراتيجية ينتهجها هذا النظام وفق تسلسل من المجرم بشار الأسد لأصغر ضابط وعامل، لإخفاء مسار هذه الجريمة الممنهجة.

ماذا ينبغي أن يحدث الآن؟
يجب ضمان حماية المواقع من العبث أو التطاول، وتمكين عمليات الحفر والعدّ والتوثيق بطريقة تقنية حديثة.
كما يجب إنشاء قاعدة بيانات للضحايا والمفقودين، مع الاستعانة بالكشف عن طريق استخدام الحمض النووي وربطها بأُسر المفقودين؛ هذا يُعد خطوة لا بدّ منها لإحقاق العدالة وتمكين الأسر من معرفة مصير أبنائها، ويمكن الاستعانة بخبرات دولية في ذلك.

من ناحية العدالة والإنصاف:
يجب محاكمة كل من أصدر الأوامر وأشرف على التنفيذ، ومن شارك في النقل والإخفاء، إلى جانب النظر في مسؤولية الجهات الدولية والمحلية التي كانت تسيطر على المنطقة أو تمتلك القدرة على التدخل، وخاصة وجود قواعد عسكرية للروس والإيرانيين بقرب المنطقة.

إن ما كشفته رويترز بتحقيقها هو كشف لآلة القتل المنظم والممنهج التي استخدمها النظام الدموي البائد للتستر على جرائمه، من القطيفة إلى الضمير، وهذا جزء من سلسلة أتوقع أن تُكشف مع الزمن، كما كُشف قبل أيام عن جثث كان النظام البائد قد دفنها في المجارير في منطقة نهر عيشة بدمشق. يجب ألّا تفلت الحقيقة من العدالة، لأن العدالة ليست خياراً، بل إنها واجب تجاه الضحايا، وتجاه الأُسر، وتجاه الوطن، وتجاه التاريخ.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top