قرية مسحرة في ريف القنيطرة الأوسط

كانت مشاركة أهل قرية “مسحرة” في الثورة نقطةً محورية في إشعال الشرارة الأولى في محافظة القنيطرة، منذ المظاهرة الأولى التي كشفت الجواسيس في القرية. وبعد هذه المظاهرة، استدعت الفروع الأمنية جميع المشاركين فيها بسبب التقارير المتتالية من قبل الجواسيس والحزبيين من النساء والرجال.
وكانت هذه النقطة بمثابة غربال أظهرهم على حقيقتهم وكشفهم للجميع. بعدها اضطرّ شباب القرية إلى الانتقال إلى الكتابة على الجدران وتهديد “العواينية”. ومع انتشارهم في المنطقة، جندوا كل مؤيدٍ للظلم، فعاثوا في القرية فساداً.

كانت هذه الأحداث في بداية الثورة، وبعد تحولها من السلمية إلى المقاومة، ومع رؤية شباب القرية الأبطال لتطور الأحداث في سوريا، وقيام الجواسيس بالتضييق عليهم، حاولوا الضغط على المتآمرين بحرق منازلهم والكتابة على جدرانها للتعريف بهم وكشفهم للعامة وإرسال الرسائل لهم.

عندها جاءت المداهمة الأولى التي اقتحم فيها الجيش القرية، فداهم منازل الثوار والمنشقين الأوائل، واعتقل بعضهم بينما هرب آخرون. وبدأت الموجة الأولى من الانشقاقات عن الجيش والأمن، وتقوّت البذور الأولى للمقاومة المتمركزة في أحراش جباثا الخشب.
استطاع كثير من شباب القرية الانشقاق والانضمام إلى صفوف الجيش السوري الحر، واستُشهد أحمد الخطيب (أبو علي)، الذي كان أحد مؤسسي الجيش الحر في القنيطرة.
شارك أهل القرية في اقتحام حواجز مهمة مثل “حاجز أوفانيا”، حيث أُصيب “أحمد الخضر” أثناء محاولته سحب الشهيد “منشد الثوار” من قرية الطيحة، بسبب قناص متمركز في المنطقة. وقدّموا عدة شهداء في الاقتحامات حتى 13/10/2012، حين قرروا الخروج من القوقعة ودخول قرية مسحرة وتحريرها، ليغيّروا بذلك مسار الثورة في المحافظة.

معركة مسحرة الكبرى – 13/10/2012

قرر أبطال القرية تحويل مسار المعارك من الكرّ والفرّ إلى التمركز وفتح جبهات جديدة للضغط على النظام. وخلال ساعاتٍ قليلة تمكنوا من تحرير القرية والقضاء على النقاط العسكرية المحيطة بها، واغتنموا كميات كبيرة من العتاد. لكن بعد أيامٍ معدودة، اتُّخذ القرار الخاطئ بالتمركز داخل القرية، فأرسل النظام طائرة هليكوبتر إلى مناطق فضّ الاشتباك، التي كان يُمنع دخولها. وانتهت المعركة باستشهاد العديد من شباب القرية، وآخرهم على تلّ مسحرة، وهم: “أحمد الخضر، عمر الخضر، محمود الخطيب”.

منذ تلك اللحظة تحوّل مسار الأحداث تماماً، وبدأ السوريون يذكرون بطولات أهل القنيطرة على الشاشات، وذاع صيتهم في أرجاء سوريا والعالم، إذ هزم ثُلّة من الشباب جيشاً نظامياً مدرباً.

الاجتياح الثاني للقرية

بعد أشهرٍ قليلة، اقتحم الجيش القرية مرة أخرى بمساعدة بعض “الدروز من قرية حضر”، فعاثوا فيها فساداً وقتلوا المدنيين في منازلهم – نساءً ورجالاً وشيوخاً – وأحرقوا ما يقارب 60% من منازل القرية. حتى الحيوانات – من غنمٍ وبقرٍ – قُتلت دون أن يرفّ لهم جفن، في محاولة لإثبات وجود الدروز في المحافظة ضمن ما يسمى بـ”اللجان الوطنية”.

مشاركات متتالية وتحرير القرية مجدداً

شارك أهل القرية في معارك كبرى بعد ذلك، مثل معركة “خان أرنبة” ومعركة “الصمدانية” ومعركة “التلول الحمر”، التي استُشهد فيها ثلة من شباب القرية مثل “مصعب سعد الدين”، “يحيى الخطيب”، “أحمد الخطيب” وغيرهم.
ونفّذ هذه المجزرة عناصر من قرية “حضر” الموالية للنظام، بمساندة اللجان الشعبية من “خان أرنبة وجبا” والقرى المجاورة، حيث مثلوا بجثث الشهداء.

ولا ننسى مشاركة أهل كناكر وبيت جن البطولية، وأبطال درعا في جميع المعارك، وتقديمهم التضحيات الجسيمة، حتى جاء يوم التحرير الثاني – 4/9/2014 في معركة “فالمغيرات صبحا”، حيث دخلوها فاتحين وبقوا فيها عدة سنوات. تمكن الجيش الحر من السيطرة على ثلث الأراضي السورية قبل تدخل الروس والإيرانيين الذين قلبوا الموازين.

الصمود الأسطوري وجدار القنيطرة الأخير – 2018

بعد التحرير الأخير، كانت مسحرة على صفيحٍ ساخن، وسُمّي المحور الذي يصل درعا بدمشق بـ”محور الموت”، استمات النظام في محاولة استعادة السيطرة، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل. وفي عام 2018، بعد سقوط بصرى الشام وتوالي الهزائم في درعا واقتراب المعارك من القنيطرة، كانت “مسحرة” هي الجدار الأخير الذي صمد فيه أبطال القرية وقدّموا أروع البطولات دفاعاً عن القنيطرة. وفي النهاية، عندما سقطت مسحرة، سقطت المحافظة كلها، بعد أن قدّمت القرية التضحيات حتى الرمق الأخير.

التهميش المتعمّد رغم التضحيات

بعد كل تلك البطولات، عانت قرية “مسحرة” وأهلها من تَهميشٍ متعمّد وإقصاءٍ واضح، إذ حاول أصحاب السلطة في القنيطرة إبعاد أهل “مسحرة” عن الواجهة وإقصاءهم من جميع الفعاليات. وصل التهميش إلى حدّ تجويع الأهالي عبر فصل الأساتذة ومنعهم من التدريس في قريتهم، واستقدام معلمين من خارجها. كما حُرموا من فرص التطوع في مختلف المجالات، وأُبعدوا حتى من لجنة انتخابات مجلس الشعب.

  • عامر عثمان الخضر

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top