يأتي تشكيل مجلس تشريعي لسورية بعد انعطافة تاريخية تمثلت بسقوط منظومة حكم استبدادية استمرت قرابة ستة عقود ونيف، بعد ملحمة ثورية خاضها الشعب السوري قرابة عقد ونصف من الدماء والدموع، مما شكل فراغاً تشريعياً بهذه المرحلة البينية. فالإعلان الدستوري الذي أقره السيد الشرع ينص على العمل بالقوانين السورية ما لم تتعارض مع ثوابت ثورته وقيمه، ولكن كثيراً من القوانين تحتاج تعديلاً وهذا يحتاج مجلساً تشريعياً ولو مؤقتاً، وهذا ما سيقوم به هذا المجلس، وهي قوانين بإمكان أي لجنة قانونية القيام بها، ولكن ديكور الشرعية يحتاج مجلس شعب.
ولم يعرف التاريخ سقوط دول ونشوء دول دون تطبيق العزل السياسي إلا ثورتنا اليوم! وهذا لا يزال يشكل خطراً على ثوابت الثورة ودماء الشهداء وبنية الدولة. فأول من طبق العزل السياسي بالتاريخ الإسلامي هو الخليفة الأول والثاني أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فحظروا كل من وقف بصف الردة عن أي منصب مدني أو عسكري!
من حيث آلية التشكيل والظرف الزماني، فإن هذا المجلس يأتي بظرف ليس له مثيل بتاريخ سورية، وكان لا بد من آلية تناسب الظرف السوري والحدث التاريخي. فبعضهم يشبهه بالجمعية التأسيسية الوطنية أيام المملكة السورية والملك فيصل، وهذا مردود عليه، فالملك فيصل أتى على دبابة فرنسية وإنكليزية بما يسمى محادثات “حسين مكماهون” كمكافأة لإسقاط الدولة العثمانية بالتعاون مع جمعية “الفتاة التركية”. أو فترة الوحدة وانقلاب البعث أيضاً كانت مرحلة مشبوهة جاءت بالنظام البائد. ولكن اليوم فإن الشعب السوري انتزع النصر بأسنانه وأظافره. فمن الخيانة والظلم تشبيه السلطة اليوم التي أتت من رحم الثورة بسلطات الأمس، فسلطة اليوم تعتبر سلطة ثورية كاملة الصلاحية طوال الفترة الانتقالية، وكان بإمكانها تعيين المجلس تعييناً دون الدخول بالمجاميع الانتخابية، ولكن اختارت أوسط الحلول بذلك، وعدم ترك الانتخابات كباب مفتوحاً لأنه سيولد مجلساً عبارة عن حقل ألغام. فجاء المرسوم الرئاسي رقم 143 الذي أصدره الشرع، والذي هو مستمد من النظام الأمريكي، بتشكيل المجاميع الانتخابية. ورغم أنه يفتقد الروح السياسية، إلا أنه يؤدي المطلوب، فهو يحد من تسرب أكبر عدد من الفلول والمكوعين للمجلس الوليد. وافتقاده للروح السياسية ليس سببه سلطة العهد الجديد، وإنما موروث البعث والاستبداد والتصحر السياسي، فلا يوجد حياة سياسية بسورية منذ إعلان الجبهة التقدمية. وهذا ما نلاحظه على بساطة بعض المرشحين بعمل برامج انتخابية مفصولة عن مسؤولية النائب ووظيفته، وكذلك غياب الوعي بالعمل السياسي!
ينص المرسوم 143، بناء على الصلاحيات الممنوحة للرئيس، على تشكيل لجنة مركزية للانتخابات تشكل لجانًا فرعية. تقوم اللجان الفرعية بانتقاء ممثل عن كل خمسين ألف مواطن تقريباً، وذلك بعد تقسيم كل محافظة لعدد من الدوائر الانتخابية، ثم يفتح باب الطعن لإقصاء البعض للوصول للهيئة الناخبة بكل محافظة، ثم يتم انتقاء الممثلين لمجلس الشعب من هؤلاء بناء على التزكية المزدوجة، تكون الدولة طرفاً بها. ولكن ظهرت عيوب واضحة بسبب ذلك، وربما سيولد شرخاً اجتماعياً وفقْد ثقة لدى شريحة من المجتمع بالسلطة، وذلك لعدة أسباب منها: عدم تطبيق العزل السياسي حيث ربع المقبولين -كما يقول متابعون- أغلبهم شارك بهيئات ساعدت بتعويم النظام ومحاولة وأد الثورة، وخاصة ما يسمى لجنة دستورية والتي أفرغت جنيف واحد والقرار 2254 من محتواه حينها، وذلك بتراتبية الحل بإيقاف القصف وتشكيل بيئة آمنة ودخول المساعدات ثم البدء بتشكيل لجنة دستورية. فكان هؤلاء شركاء النظام البائد بتعويمه وبدء التطبيع معه عربياً ودولياً، الأمر الذي قلل الثقة بالحكومة بتعويم هؤلاء بكل محفل بالانتخابات وغيرها بدل عرضهم على لجنة العدالة الانتقالية كأضعف الإيمان. فليس دماء الشهداء وثوابت الثورة محل بازار. الأمر الآخر: ضيق وقصر الفترة الزمنية وعدم الإعلان الواضح عن اللجان بالمعرفات الرسمية للدولة وآلية قبول المرشحين، وظهور العامل الشخصي بدل الموضوعي بالقبول الأولي للمرشحين، حيث تم إقصاء قامات ثورية لأسباب شخصية وخلافات ثورية سابقة، أو كون البعض يخشى ظهور كفاءات وشهادات تحل مكانهم غدًا، وخاصة ممن يستحوذ على منصب أكبر منهم. رغم أن المستبعدين لا يناصبون العداء للدولة وغير مصنفين! ولكن المخالفة القانونية كانت بآلية قبول الطعون وعدم مصارحة الذين تم إقصاؤهم بالسبب، مما جعل هؤلاء يبنون أفكاراً ومعتقدات حول عدة جهات ويحملون حقداً على الدولة بسبب ذلك. ونتمنى تدارك ذلك قدر الإمكان حتى يبقى الشعب بكامله حاضناً وداعماً لحكومته، ريثما تجتاز البلاد هذه الفترة العصيبة بظل تآمر بعض الخارج والداخل.
ورغم كل ذلك، فإن هذا المجلس مهما كانت الصورة النهائية له، إلا أنه يبقى مجلساً مؤقتاً، ووظيفته تعديل بعض القوانين، ولكن الأمور السيادية ربما يتم التحفظ عليها كقرار السلم والحرب، والتطبيع مع إسرائيل، ونوع الحياة السياسية وشكل النظام السياسي بسورية: رئاسي أو نصف رئاسي أو برلماني، أو تشكيل دستور دائم للبلاد. وذلك لعدة أسباب منها: كون ثلث الشعب السوري لا يزال مهجرًا، وكذلك بقاء بعض المحافظات خارج التمثيل كما نص المرسوم الرئاسي، والسبب الثالث غياب أي شكل أو حامل للعمل السياسي يفرز المجاميع الانتخابية، حيث أخذت اللجان المركزية والفرعية دور الشعب بتشكيل ذلك. فالحالة الطبيعية أن يكون هناك حامل للعمل السياسي سواء أحزاب أو نقابات أو مستقلين، ثم يقوم المرشح بتقديم برنامجه للشعب لينتخبه، وليس العكس كما حصل اليوم. وأخيرًا، التفاوت بعدد الممثلين بكل المحافظات بناء على إحصائيات ما قبل الثورة، حيث تم ظلم بعض المحافظات كدرعا والقنيطرة وتزويد حصة محافظات ثانية. وأتمنى أن يتم إيصال ذلك للسيد الرئيس للتدخل ووضع حد لهذه التجاوزات.
وختاماً، علينا جميعاً الالتفاف حول الحكومة اليوم والتغافل قدر الإمكان عن الأخطاء ومحاولة إصلاحها بالقنوات الرسمية لمن حصل لديه مظلمة. وعلى الجانب الآخر، على الحكومة أن تحاسب اللجان المسؤولة عن التزكية وسبب إقصاء قامات ثورية لأسباب غير منطقية. وأخيراً، العمل على إقرار حامل للعمل السياسي وتشريع آلية للعمل السياسي، بحيث تكون الانتخابات على مرحلتين: مرحلة تشكيل النخبة من القواعد، وتقوم النخبة بفرز النواب كمشروع المجتمع المدني النقابي، حيث يتم تنقيب جميع شرائح المجتمع لنقابات، وتقوم النقابات بتشكيل مجمع انتخابي بكل محافظة، ويقوم المجمع بفرز الممثلين لمجلس الشعب، بحيث يكون التنافس تكنوقراط بعيداً عن البعد الأيديولوجي والعشائري و المناطقي. وللعلم، فإن المرحلة الانتقالية تنتهي إما زمنياً بعد خمس سنوات، أو عند تشكيل مجلس شعب حسب الإعلان الدستوري، الأمر الذي يفتح الباب لانتخابات رئاسية للخروج من المرحلة الانتقالية.
وأخيراً، وإذا نبين بعض الأخطاء فليس الغاية الطعن، بل الحفاظ على الحكومة من تراكم الأخطاء كي لا تفقد حاضنتها ويستغل ذلك الفلول. فكل ابن آدم خطاء.