فزعة الجولان

لم يكن الاحتفال في يوم من الأيام مجرد فسحة للفرح، ولا لحظة للهروب من الواقع. ففي كل مجتمع، كان للاحتفالات وظيفة أعمق: التعبير عن الجماعة، عن تضامنها، عن قضاياها الكبرى. هذا ما أراد أن يوضحه مقال نُشر في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية في عددها الأخير سبتمبر 2025 تحت عنوان «معنى الاحتفال». إذ رأى الكاتب أنّ المهرجانات في أوروبا مرّت بتحوّل عميق: من فضاءات سياسية واجتماعية تُعبّر عن الحركات العمالية والشعبية، إلى فضاءات استعراضية تجارية تسيطر عليها الشركات والسلطات.

وإذا عدنا إلى المشهد السوري الراهن، حيث تتعدد الفعاليات من إطلاق الهوية البصرية إلى معرض دمشق الدولي، ومن مبادرات تنموية مثل أبشري حوران ودير العز وفزعة الجولان، إلى مهرجانات ثقافية مثل مهرجان حماة الثقافي، فإننا نجد أنفسنا أمام صورة حية يمكن مقارنتها مباشرة بما طرحه الكاتب الفرنسي.

الاحتفالات في أوروبا: من التضامن إلى الاستعراض

يشير مقال لوموند ديبلوماتيك إلى أنّ المهرجانات في بدايات القرن العشرين، خاصة في فرنسا، لم تكن مجرد مناسبات للرقص أو الغناء، بل كانت أدوات سياسية واجتماعية.

عيد الإنسانية الذي أطلقه الحزب الشيوعي الفرنسي في الثلاثينيات لم يكن مجرد مهرجان موسيقي؛ بل كان منصة للنضال الطبقي، للتعبير عن وحدة العمال وحقوقهم. كانت الأهازيج والأغاني والأطعمة الشعبية أدوات لترسيخ هوية جماعية.

بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت الاحتفالات دورًا في إعادة بناء الروح الجماعية، في توحيد الناس بعد الكارثة، في تقديم الثقافة كأداة للتحرر، لكن هذا المسار تغيّر مع صعود الاستهلاك في الستينيات. المهرجانات فقدت تدريجيًا بعدها التضامني، وأصبحت منتجًا ثقافيًا يُباع ويُشترى. الفنانون صاروا نجوما تُذاع حفلاتهم بتذاكر مرتفعة، الشركات صارت هي الممول والمنظم، والدولة وجدت فيها واجهة دبلوماسية وسياحية. بمعنى آخر: الاحتفال تحوّل من فضاء للتعبير الجماعي إلى أداة استعراضية ودعائية.

المقال ختم بسؤال أساسي: هل يبقى الاحتفال مجرد ترفيه ودعاية؟ أم يمكن أن يستعيد دوره التاريخي كأداة للتضامن والمقاومة وبناء البدائل الاجتماعية؟

سوريا اليوم: بين الرسمي والتنموي

عندما ننقل هذا التحليل إلى المشهد السوري، نجد أنّ الصورة متشابهة إلى حد بعيد، لكن مع بعض الخصوصية.

  1. الهوية البصرية: احتفال سياسي
    إطلاق الهوية البصرية الجديدة كان حدثًا ضخمًا، مليئًا بالعروض الضوئية والطائرات المسيّرة والرموز الوطنية. لكنه في جوهره لم يكن احتفالًا جماهيريًا عفويًا، بل فعالية رسمية تهدف إلى ترسيخ صورة الدولة في الداخل والخارج. هذا بالضبط ما تحدث عنه مقال لوموند ديبلوماتيك: الاحتفال الذي تنظمه السلطة ليكون واجهة رمزية، أكثر منه مساحة للمشاركة الشعبية.

  2. معرض دمشق الدولي: مزيج الثقافة والسوق
    معرض دمشق الدولي يجمع بين العروض الفنية والتراثية من جهة، وبين الأجنحة التجارية والاستثمارية من جهة أخرى. يشبه كثيرًا المهرجانات الأوروبية التي وصفها الكاتب: الثقافة تُقدَّم هنا كمنتج ضمن سوق كبير. الجمهور يشاهد ويستهلك، لكن المشاركة الجماعية في صنع المعنى تكاد تكون محدودة.

  3. أبشري حوران: التضامن يعود إلى الساحة
    على النقيض من ذلك، جاءت مبادرة أبشري حوران لتعيد للأذهان الروح الأصلية للاحتفال. هنا اجتمع الناس في درعا ليس فقط للغناء والرقص، بل لجمع ملايين الدولارات لمشاريع تنموية ملموسة: مدارس، مشافٍ، بنى تحتية. الجمهور لم يكن مجرد متفرج، بل كان مشاركًا وممولًا. هذه بالضبط هي الروح التي رأى كاتب لوموند ديبلوماتيك أنها ضاعت في أوروبا: الاحتفال كأداة تضامن فعلي.

  4. دير العز وفزعة الجولان: استمرارية النهج التضامني
    التحضيرات لاحتفالية دير العز في الشرق السوري، وفعالية فزعة الجولان، تعكس المسار نفسه. الفكرة ليست مجرد إحياء رمزي، بل جمع الموارد والمشاركة الشعبية لدعم المجتمعات المحلية. هذه الاحتفالات التنموية الجديدة تشكّل إجابة سورية عن السؤال الذي طرحه الكاتب الفرنسي: نعم، يمكن للاحتفال أن يكون أكثر من تسلية؛ يمكن أن يكون أداة للبقاء، للتنمية، ولتعزيز الصمود.

  5. مهرجان حماة الثقافي: الثقافة المؤسسية
    أما مهرجان حماة الثقافي فيمثل وجهًا آخر: عروض فنية وأمسيات شعرية ومعارض تراثية تعكس غنى الثقافة السورية. لكنه يبقى أقرب إلى الثقافة المؤسسية التي أشار إليها المقال الفرنسي: جميلة الشكل، غنية بالمحتوى، لكنها لا تتجاوز الإطار الرسمي لتبني تضامنًا شعبيًا واسعًا.

من أوروبا إلى سوريا: تلاقي الأسئلة

المشهد إذن متنوع. في سوريا كما في أوروبا:

  • هناك احتفالات رسمية تُدار من أعلى، هدفها بناء صورة رمزية أو تسويقية.

  • وهناك مهرجانات ثقافية مؤسساتية تُبرز التراث والفن.

لكن هناك أيضًا مبادرات جديدة مثل أبشري حوران ودير العز وفزعة الجولان، تُعيد تعريف الاحتفال كفعل جماعي منتج، يحوّل الفرح إلى موارد، والغناء إلى مدارس، والرقص إلى كهرباء وماء.

وهنا يكمن الفارق الجوهري: بينما يرى الكاتب الفرنسي أنّ أوروبا فقدت إلى حد بعيد المعنى الأصلي للاحتفالات، يمكن القول إنّ سوريا اليوم تحاول أن تستعيده، ولو في سياق خاص مليء بالتحديات.

يطرح مقال لوموند ديبلوماتيك سؤالًا محوريًا: هل أصبح الاحتفال مجرد واجهة للسلطة والسوق؟ أم أنه قادر على أن يكون أداة للتضامن من جديد؟

في أوروبا، تميل الكفة نحو الاستعراض والاستهلاك. لكن في سوريا، رغم وجود الفعاليات الرسمية الكبرى، هناك مسار آخر يبرز: الاحتفال كوسيلة للتنمية، كمحرك للتضامن، كأداة لإعادة بناء المجتمع بعد سنوات الحرب والأزمات.

من الهوية البصرية إلى معرض دمشق، ومن أبشري حوران إلى دير العز وفزعة الجولان، ومن مهرجان حماة الثقافي إلى صندوق التنمية السوري، يتضح أن الاحتفالات في سوريا ليست مجرد فرح عابر. إنها جزء من صراع على المعنى نفسه: هل يكون الاحتفال أداة دعائية، أم مساحة لإعادة خلق الجماعة وبناء المستقبل؟

 

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top