بالبداية لا بد من الإقرار أن التفاعل الشعبي الصادق مع اللقاء أكبر علامة فارقة للعهد الجديد مقارنة بالنظام السابق، وصب جام الغضب على خطأ تقني بالصوت دون التعرض لمقام الرئاسة، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع محتوى الحوار، فمقام الرئاسة يمثل السلطة التي أفرزتها الثورة وبالتالي الدولة، ويعتبر خطاً أحمر المساس بها أو النيل من شرعيتها.
فلغة الرئيس الخطابية لم تتغير منذ اليوم الأول للتحرر حتى لقاءه الأخير، فكانت تعتمد على عدة نقاط في الإقناع وإيصال ما تريده، وهي: اتباع سياسة بث الأمل والتفاؤل، وصفر مشاكل مع الجميع داخلياً وخارجياً، الابتعاد عن كلمات الحرب والعنف واستبدالها بمفردات أقل تشنجاً وتوحي دائماً بالسلم والإيجابية، وخاصة عند خطابه تجاه ما يحصل بالسويداء وجماعة “روج آفا”، وخارجياً تجاه “روسيا وإيران”، وذلك بهدف إشاعة الأمن والطمأنينة والتخلص من شبح الحرب وآثاره خلال السنوات الماضية، التي شحنها الإعلام الوظيفي ضد ثورات الربيع العربي، كي تصبح سورية بيئة جاذبة للاستثمارات والسياحة والعمران وعودة المهجرين.
ثانياً: جاء اللقاء كسابقه، وهي إعطاء المخاطب ما يريده ويدغدغ مشاعره دون الخوض بالسلبيات وإن طغت على الآخر، وذلك لتجنب النقد وفتح الأفواه والأقلام ضده.
ثالثاً: الهدوء بتنفيس وتبريد الملفات الساخنة كالعادة.
رابعاً: بقاء الباب مفتوحاً مع روسيا وإيران خاصة، حيث هناك أنظمة عربية لا تزال تناصب دمشق العداء وتزعم عداءها لإيران، وهي رسالة لها لتغيير منهجها قبل فوات الأوان.
خامساً: الشفافية والصراحة وبراعة لغة السياسة بعرض الواقع دون اللجوء للخداع والكذب، فالسياسة فن الأخلاق والمناورة وليس الكذب.
سادساً: المصارحة بأن تشكيل مجلس الشعب لا يمكن أن يكون بالانتخابات، بل بالتزكية المزدوجة نظراً لظروف البلد والمهجرين وفقدان الوثائق الرسمية عبر المجاميع الانتخابية، وهو ليس حلاً أمثل ولكن أفضل الموجود، ولكن يبقى ناقص الشرعية، وقد عملنا على نفس النظام قبل التحرير بأشهر بالمحرر ولكنه لم يكتب له الخير!
من السلبيات التي تقرأ بين السطور:
أولاً: عدم اختيار مستشارين جيدين أوقع الحوار بسلبيات، مثل إسقاط الحالة السورية على حالة دول عظمى كانت تحكم العالم مثل فرنسا وألمانيا، والمفروض مقارنتها بدول شبيهة كحال دول الربيع العربي، التي لا تزال تعاني من فوضى وتخبط منذ سقوط أنظمتها مقارنة بالوضع السوري، وهو خطاب أجدى وأنفع لتهدئة الشعب وإقناعه.
ثانياً: العلاقة مع روسيا وريثة السوفيات لم تبدأ منذ الجلاء، بل بعد قرار شكري القوتلي التاريخي الغبي والمشؤوم بالارتماء بحضن السوفيات بحجة مناهضة حلف بغداد نكاية بحزب الشعب وبتوجيه من داعميه، فكانت مصيبة سورية العظمى حتى اليوم. كما أن القوة الثانية بالعالم هي الصين وليس روسيا، وروسيا لا يوجد عندها أي صناعات متطورة، حتى البسكويت تستورده، ودخلها القومي يعتمد على الصناعة العسكرية والمواد الأولية والغاز والقمح اللين كأي دولة نامية. وروسيا ليست عدوة لأمريكا، بل دخلت سورية بأمر أمريكي بما عرف باتفاق كيري-لافروف نهاية ٢٠١٥م.
ثالثاً: تجاهل مصير العلاقة مع الصين، والتي تعتبر وريثة السوفيات بالحرب الباردة والقطب الثاني حالياً بالعالم، وخاصة بعد مشروع الطوق والطريق وبدء أمريكا بالتجييش ضدها. وكان المفروض اللعب على وتر العلاقة مع الصين بدل روسيا.
رابعاً: تجاهل الحوار أسباب إبقاء الحصار الاقتصادي وفك السويفت عن البنوك السورية رغم رفع الحصار.
خامساً: وضع السلطة بتحد بعد ثلاثة أشهر في حال عدم عودة الجزيرة السورية سلماً لدمشق ورفض قسد تطبيق اتفاق آذار.
سادساً: تجاهل الخوض بنوع الحياة السياسية مستقبلاً، هل ستكون أحزاباً أم منظمات مدنية كالنقابات لتحقيق التعددية، أو سيولد مجتمع منافق يلهث خلف المنصب كما فعل حزب البعث الأوحد، علاوة على بقاء الفساد والرشوة والشبيحة بمؤسسات الدولة حتى هذه اللحظة.
سابعاً: خلل بإدارة الملف الاقتصادي من قبل المختصين، فصندوق التنمية لا يغني ومستقل عن صندوق الاستثمارات، والناس تختلف بطبيعة تقديم العون، منها من يقبل التبرع ومنها من لا يعطي إلا إذا أخذ. فصندوق الاستثمار السيادي وطرح مشاريع واستثمارات بضمانة الدولة لعدة سنوات سيجعل الجميع يساهم لبناء الدولة، كي يبقى القرار الاقتصادي حراً، أفضل من الرهان للصندوق الدولي الذي يرفض حتى الآن تقديم ديون لسورية.
ثامناً: عدم وجود حوامل حقيقية للعمل السياسي تطرح ممثليها لمجلس الشعب لانتخاب لجنة دستورية، سيبقي أي منتج دستوري ناقص الشرعية مقارنة بدستور الخمسين، وسيكون مؤقتاً.
تاسعاً: السكوت عن أهم ما يؤرق أهل الثورة، كبقاء الفلول بمناصبهم خارجياً بالسفارات وداخلياً بمختلف مؤسسات الدولة، وعدم تشكيل مجالس مدنية من أهل الثورة بكل محافظة تطرح أهل الثقة والكفاءة لمختلف المناصب السياسية والخدمية تشارك الدولة بالبناء، حيث يتضخم دور المجتمع المدني على حساب الدولة بالمرحلة الانتقالية، وذلك بديل عن “المكوعين” الذين شلوا الحياة الخدمية منذ التحرير، حيث يغدقون على السلطة ما تريده من ثناء وموالاة دون أي فكر. ونتمنى تدارك ذلك من المعنيين قبل فوات الأوان، لأن المكوع لا يغير طبيعته.
عاشراً: عدم وجود منافسة حقيقية وغياب حوامل مدنية جامعة للعمل المدني والسياسي، إلا للمتسلقين، جعل أهل الثورة يعزفون عن أي مشاركة ويفضلون الصمت والانتظار بسبب عزة نفوسهم نظراً لما تتعرض له سورية، ولكن ذلك ربما لن يطول. علاوة على أنه يحرم سورية من قامات فكرية قدمت ونصرت الثورة خلال ١٥ سنة، ولولاها لما كان نصر وتحرير، وخاصة الاعتماد على كوادر موالية لا تحمل فكراً سوى الموالاة. وخير من استأجرت القوي الأمين وليس الأمين الموالي، فهذا يجعل مؤسسات الدولة عاطلة عن العمل ويحرم سورية من خبرات الكفاءات.
وختاماً: فإن اللقاء رغم إيجابيته إلا أنه كان حذراً باتجاه تقديم نوع الرؤى والحلول لما يؤرق السوريين من قضايا اقتصادية وسياسية وعدالة انتقالية وغيرها، ربما لأسباب نعلمها ولا نعلمها.






