حسن قاسم معاذ الأسعد سمير السعدي نور جولان فاروق الرفاعي محمد فهد فادي الأصمعي

يخفتُ كل شيء أمام الحقيقة المطلقة، حقيقة الموت التي لا تُمهل ولا تُساوَم. في حضرة الغياب نصغر جميعاً، وندرك أن أعمارنا ما هي إلا ومضات قصيرة، وأن الوجوه التي أحببناها تتحول فجأة إلى ذكرى معلّقة بين القلب والذاكرة. أمام الموت؛ لا يبقى للصحفي قلمه، ولا للمصور كاميرته، ولا للثائر صوته… كلنا نصير خبراً يُنشر، وسطراً يُتلى، ثم يذوب في زحام الأيام، وثقلها.

ما أصعب أن تكون ناقلاً للخبر وتصبح أنت الخبر، أنعيك يا صديقي بعد سنوات من الغياب لم نتكلم كثيراً خلالها، لأنّك كنت مشغولاً برزقك ورزق أولادك وعائلتك، وكنتُ أدرك حجم الخطر عليك. يوم كان خيارُك أن تبقى، قلتَ في قرارة نفسك: “أنا خلف الكاميرا، لا أحد يعرفني”، ولم تعرفك مفارز الأمن فبقيت… لكن البقاء لم يكن نجاة، بل كان ثقيلاً على قلبك الذي توقف فجأة، لتصبح اليوم خبراً يُنشر، واسماً يُتداول على ألسنة الأصدقاء الموجوعين.

أنعيك لا لأننا عملنا معاً في مكتب “أورينت”، ولا لأننا اجتمعنا في جولات تصوير صدفة، أو في زياراتك لبيتي مع الزّميل “محمد فهد”؛ بل لأنني كنت متأكداً من سريرتك الصافية، ومن روحك النقية، ومن اجتهادك لقضيتك أولاً، وللقمة العيش ثانياً. كنت مختلفاً عن كثيرين ممن عبروا حياتنا ثم مضوا، فقد تركت أثراً يظل حاضراً في القلب كلما تذكرت وجهك البشوش وصوتك الواثق.

كلنا فقراء يا “حسين”… لكنني اليوم أشعر بخيبة أمل كبيرة، خيبة المسافات والبعد. أتوجس من خطوات قادمة أخطوها ولا ألقى أحداً، ربما ألقى شخوصاً وأجساماً بشرية، لكنني لا ألقى تلك الأرواح التي تركتها خلفي، الأرواح التي ناوأت النظام المجرم ووثقت انتهاكاته. لا ألقى رفاق “بريقة” و”بئر عجم” في الأحراش، ولا رفاق “مسحرة” و”نبع الصخر” الأوائل. الوجوه تغيرت يا حسين… تغيرت كأنها لم تكن يومًا.

حين وصلني خبر موتك المفاجئ لم تبدُ عليّ ملامح فقدانٍ كبير. فقط رجعت بالذاكرة إلى سنين خلت، هادئاً دون أيّة حركة. سابقاً كنت أبكي طويلاً… أما الآن فقد تعودت على الفقد وأصبحت أكثر جلافة وقوة. فقدت أمي وأخويّ وأعمامي، وصار خبر الموت عادياً جداً، حتى لم يعد يوقظ فينا سوى صدى داخلي مرّ كطعنة صامتة.

يا حسين… وأنا أنشر خبر وفاتك وأشرف على مشاهد مرئية من جنازتك، أيقنت أننا لا شيء. نحن مجرد أخبار تُنشر ثم تُنسى. تخيلت نفسي خبراً آخر، وقلت في قرارة ذاتي: كم نحن غرباء، وكم هذا العالم مجنون… لا شيء، لا شيء مطلقاً. نحن نركض خلف الحياة لنصير عناوين صغيرة في نهايتها.

أرثيك اليوم بلا دموع، لا أبكي، ولا تظهر على ملامحي أوشاج الحزن. أمارس حياتي كالمعتاد: أذهب إلى عملي، ألتقي أولادي، أزور النادي الرياضي. لكنني موجوع، موجوع جداً. عَبرتي تخنقني بلا ملامح، وكأنني أحمل بركاناً مكتوماً لا ينفجر.

يا صديقي… كن مرتاحاً حيثما أنت. أعرف أنك تعبت كثيراً، وحقّ لك أن تستريح. الحياة قصيرة يا حسين… قصيرة جداً. الحياة مقاطع “رشز”، حتى وإن كثرت، فإنها تنتهي فجأة، وتبقى الذكرى وحدها هي ما يمدّنا ببعض البقاء.

كنت أفكر أنني إن عدت فسأزور “جباثا الخشب”، لا لأنك فيها فحسب، بل لأنها قبلة الثائرين. “جباثا الخشب” في ذاكرتنا جميعاً، بلدة ثائرة قاومت وقالت كلمتها منذ البدء في وجه النظام المجرم الذي قتلنا جميعاً… قتلنا ونحن أحياء. تلك البلدة كانت شاهداً على جيل من الرجال لا يساوِم، واليوم صارت شاهداً على غيابهم واحداً تلو الآخر.

سأكون هادئاً يا حسين، هادئاً جداً. وسيبدو عليّ أنني أتقبل الأخبار كما هي: خبر موتك، خبر الخيانات الكبيرة، خبر الاصطفافات المؤذية، خبر تصدر المتملقين وراكبي الموجة، وخبر الثائرين بعد التحرير حين تصدروا المشهد. لن يؤذيني كل هذا مطلقاً… ما يؤلمني أن أعود فلا أجدكم، لا أجد الرجال الذين كان همّهم إزاحة الظلم عن أهلنا، لا إزاحة الجميع عن مناصب وظيفية.

وداعاً يا صديقي وأخي… رحمك الله، آنسك، وعوّضك خيراً، وجبر مصاب أهلك وذويك. وستظل فينا ذكرى لا تبهت، مهما تراكمت فوقها الأخبار والسنوات.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top