جانب من الدمار الذي لحق بجنوب دمشق لتجمعات أبناء الجولان خاص مؤسسة جولان

منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، انفتحت أمام سوريا أبواب واسعة للاستثمارات العربية والدولية، بفرص ضخمة لإعادة الإعمار والتنمية، خصوصاً في المراكز الاقتصادية الكبرى، غير أن هذه الفرص لم تُتَح بالتساوي على كامل الجغرافيا السورية، حيث بدا الجنوب السوري – درعا والقنيطرة – وكأنه موصّد أمامه كل الأبواب، مطروح خارج الحسابات الوطنية والإقليمية.

هذا الإقصاء لا يعكس نقص الموارد أو غياب الإمكانيات، بل هو نتيجة تراكمية لتوترات أمنية مستمرة، هشاشة البنية التحتية، وخوف المستثمرين من الانزلاقات الميدانية، إضافة إلى الضغوط الإقليمية، خصوصاً التدخلات الإسرائيلية التي ترافق كل خطوة على حدود الجنوب، مستهدفةً إبقاء المنطقة رهينة للضغط السياسي والعسكري.

بمعنى آخر، الجنوب لم يُترك فقط خارج الاستثمارات الكبرى، بل أصبح ميدان اختبار للتوازنات الإقليمية: كيف يمكن لسوريا أن تحمي استقرار حدودها الجنوبية في ظل التهديدات اليومية، وكيف يمكن للمجتمع المحلي أن يقاوم الإهمال دون دعم رسمي مستدام؟

استثمارات تنعش الشمال والوسط.. والجنوب غائب

المشاريع التي وُقعت مؤخراً مع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية جسّدت توجهاً استراتيجياً واضحاً:

– ترميم المدارس والمراكز الصحية في دمشق وحلب وحمص وإدلب.

– تجهيز 17 مستشفى مركزياً، وتأهيل المخابز والمنازل المتضررة.

– دعم إنتاج القمح في ريف حلب، وإطلاق برامج رعاية الأيتام في ريف دمشق وحمص.

هذه الخارطة تُظهر أن الدولة والشركاء العرب يضعون بيضهم في سلة المراكز الكبرى، حيث الاستقرار أوضح والعائد مضمون، لكن في المقابل، تهميش الجنوب يثير تساؤلات خطيرة: هل هو مجرد ترتيب أولويات؟ أم أن هناك خشية من أن يتحول الاستثمار في هذه المنطقة إلى فريسة سهلة للاختراق الإسرائيلي أو للفوضى الأمنية؟

الجنوب يعتمد على جهوده الذاتية

وسط غياب الاهتمام الرسمي، اعتمدت درعا على نفسها، حملة “ابشري حوران” فتحت المجال أمام المغتربين ورجال الأعمال لتمويل مشاريع خدمية عاجلة، من مدارس وبنية تحتية ومساعدات معيشية، هذه التجربة أثبتت أن المجتمع قادر على المبادرة، لكنها كشفت أيضاً حدود العمل الأهلي عندما يغيب الدعم المؤسساتي.

أما القنيطرة، فقد بدت وكأنها خارج الخطط التنموية تماماً، لا مبادرات محلية، ولا حملات خارجية، ولا حتى برامج حكومية، هذا الإقصاء المزدوج يجعلها أكثر هشاشة، بل ربما أكثر عرضة لأن تتحول إلى فراغ أمني–اقتصادي تستخدمه إسرائيل للتمدد أو لبناء شبكات نفوذ جديدة.

الجنوب.. أمن مرتبك وحدود ملتهبة

أي استثمار يحتاج إلى أرض صلبة، بينما الجنوب يعيش فوق رمال متحركة:

– التوغلات الإسرائيلية شبه اليومية على خط وقف اطلاق النار مع الجولان المحتل.

– الدعم العسكري والمالي لبعض الفصائل الدرزية في السويداء، ما يزيد من الانقسام الداخلي.

– تحويل الجنوب إلى منصة ضغط على دمشق عبر تهديدات أمنية متقطعة تمنع أي استقرار طويل الأمد.

هذا المشهد الأمني يترك المستثمرين في موقف انتظار، ويجعل من الجنوب ساحة مفتوحة لـ الاقتصاد غير الرسمي: تهريب، تحويلات مالية، وسوق رمادية، النتيجة: مجتمع يعيش على اقتصاد هش، قابل للانهيار عند أي أزمة.

لماذا لا يُستثمر في الجنوب؟

الأسباب متعددة، لكن أبرزها:

– غياب الأمن: الجنوب مكشوف على حدود ملتهبة مع إسرائيل والأردن، ما يجعل أي مشروع عرضة للخطر.

– الأولويات الحكومية: التركيز على دمشق وحلب كعواصم اقتصادية طبيعية، وترك الأطراف لمرحلة لاحقة.

– الخوف من الاختراق الإسرائيلي: أي استثمار كبير في درعا أو القنيطرة قد يتحول بسرعة إلى أداة ابتزاز إذا تمكنت إسرائيل من اختراقه أو تعطيله.

لكن هذه المقاربة قصيرة المدى، ترك الجنوب في فراغ تنموي يعني خلق بيئة مثالية لـ التدخلات الخارجية، ونمو اقتصاد الحرب، وتفاقم الانقسامات المجتمعية.

الجنوب في البعد الإقليمي

الجنوب السوري ليس مجرد جغرافيا، بل عقدة جيوسياسية:

– إسرائيل تريد إبقاءه ضعيفاً لتأمين جبهتها الشمالية.

– الأردن يتأثر مباشرة بما يجري في درعا، إذ يشكل الاستقرار هناك عامل أمان لمعابرها وحدودها.

– الخليج يتردد في الدخول، خشية من الفوضى الأمنية أو استهداف استثماراته.

– الولايات المتحدة ما زالت تستخدم القنيطرة كورقة ضغط عسكرية وسياسية، عبر التنسيق مع إسرائيل.

إهمال الجنوب إذاً لا يعني خسارة اقتصادية فقط، بل خسارة ورقة جيوسياسية في صراع أوسع.

مقترحات لإنقاذ الجنوب

من منظور عملي، يمكن تدارك التهميش عبر خطوات واقعية:

– تخصيص نسبة من ريع معبر نصيب الحدودي لدعم مشاريع عاجلة في درعا والقنيطرة، هذه الخطوة لا تحتاج لانتظار الاستثمارات الخارجية، بل يمكن أن تكون مبادرة حكومية داخلية تعكس إرادة سياسية.

– إعادة فتح معبر درعا القديم مع الأردن، ما يخلق رافداً جديداً للحركة الاقتصادية ويعيد دمج الجنوب في التجارة الإقليمية.

– إطلاق مشاريع صغيرة ومتوسطة (صحة، تعليم، مياه، زراعة) لتأكيد حضور الدولة وكسر هيمنة الفوضى.

– إشراك المغتربين بشكل منظم، عبر صناديق رسمية تشرف عليها الحكومة، بدلاً من الاكتفاء بحملات متفرقة مثل “ابشري حوران”.

في الختام إن تهميش الجنوب السوري اليوم ليس مجرد خلل في توزيع الاستثمارات، بل خطر استراتيجي يفتح الباب لمزيد من التوترات التي تستغلها إسرائيل.
درعا أثبتت عبر “ابشري حوران” أن المجتمع المحلي قادر على المقاومة الاقتصادية، بينما القنيطرة ما تزال خارج أي دائرة دعم.
الحل لا يكمن في انتظار الاستقرار الكامل، بل في خطوات مرحلية: استثمار موارد المعابر، فتح خطوط اقتصادية جديدة مع الأردن، وإطلاق مشاريع صغيرة ترسخ وجود الدولة.
هذه الخطوات قد تكون طوق النجاة المؤقت الذي يمنع الجنوب من الانزلاق إلى فراغ أمني–اقتصادي أكبر، ويمهّد الطريق لدمجه في خارطة الاستثمارات الوطنية مستقبلاً.

  • محمد قنو

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top