منذ قرون، يعيش الدروز في جبل العرب (السويداء) على فكرة راسخة: “الجبل يحمي”. هذه المقولة تحوّلت إلى أسطورة مقدسة في الوجدان الجمعي، خاصة بعد ثورة سلطان باشا الأطرش عام 1925 ضد الفرنسيين. لكن ما يغيب عن الذاكرة الجمعية أن تلك الثورة انتهت بالحصار والمجاعة والهزيمة، وليس بالانتصار. ومع ذلك، استمر خطاب “حصن الجبل” حتى اليوم، وكأنه ضمانة وجود.
الجبل… فخ لا حصن
في الواقع الجغرافي والاقتصادي، جبل العرب أقرب إلى الفخ منه إلى الحصن: التربة الصخرية لا توفر اكتفاءً ذاتياً، وشحّ المياه مشكلة مزمنة، كما أي حصار من درعا شمالاً وغرباً، ومن البادية شرقاً، فضلاً عن طريق الشام المقطوع بسبب تخوفات سائقي شاحنات الوقود والغذاء من انتقام الدروز وغدرهم بهم، عدا المقاطعة الشعبية السورية إجمالاً لهم نتيجة طلبهم دعم العدو الإسرائيلي للانتقام من دمشق. وإلى جانب الطريق المغلق من الأردن جنوباً، كل ذلك يحوّل الجبل إلى قفص مغلق.
التاريخ الحديث يؤكد ذلك: الفرنسيون حاصروا الجبل عام 1926، ولكن إمدادهم كان من درعا ودمشق فصمدوا عامين، عدا أنها كانت ثورة سورية شاملة ضد الانتداب الفرنسي وقتها، إضافة إلى أن طريق الأردن كان مفتوحاً آنذاك بسبب النزاع الاستعماري الإنكليزي الفرنسي. واليوم في 2025 يكاد يتكرر المشهد، مع انقطاع طريق دمشق، إغلاق خط البادية، ورفض الأردن فتح حدوده بسبب تجارة الكبتاغون ودعمه للحكومة المركزية بدمشق، عدا التدخل الأمريكي للحوار السوري الإسرائيلي في باكو وباريس. والرهان على إسرائيل فاشل حتماً، حتى لأسباب داخلية محضة، منها تجنب تمدد نزاع بين دروز وبدو إسرائيل، فضلاً عن أن إسرائيل متورطة بمجازر غزة وانقسامها الداخلي وتحكم المافيات فيها.
الانغلاق السياسي: وصفة للانتحار
العقلية الدرزية الحالية بزعامة الهجري قائمة على الانعزال والجاهلية الطائفية: لا انخراط حقيقي مع دمشق الجديدة، ولا تفاهم صريح مع العشائر المحيطة، ولا تحالف وطني جامع. فوق ذلك، الانقسام الداخلي (فصائل متناحرة، حزب انفصالي مثل حزب اللواء الذي نظم مظاهرة التغزل بإسرائيل ورفع علم إسرائيل مع علم الدروز، تجار مخدرات، فلول نظام) يجعل أي مشروع للبقاء ضعيفاً.
هذا الانغلاق يعني ببساطة: انتحاراً بطيئاً. فالمجتمع الذي لا يملك اكتفاءً ذاتياً، ولا تحالفات، ولا قيادة موحّدة، كيف يمكن أن يصمد في وجه الحصار الذاتي والجوع؟ ورفض الحكومة الانتقالية بدمشق تقديم الدعم يزداد غرابة حين يطالبونها بالمساعدات، رغم أنها قدمت مساعدات يومية عبر معبر بصرى الشام. ومع ذلك، لن تكفي بسبب الرفض الشعبي في الشارع السوري والمقاطعة الوطنية، عدا تنازع الفصائل الخارجة على القانون في السويداء على تقاسم تلك المساعدات على حساب 150 ألف نازح من غرب السويداء إثر هجوم العشائر.
البراغماتية هي الخلاص
الخيار الوحيد أمام الدروز ليس الصمود الأسطوري ولا التمسك بالوهم التاريخي، بل العقلانية والبراغماتية عبر حلول ليست معقدة، وهي: تسوية واقعية مع دمشق الجديدة، وتفاهم مباشر مع درعا والعشائر المحيطة، وإعادة النازحين البدو من درعا ودمشق إلى قراهم وأماكن سكناهم، وإعادة نازحي الدروز إلى قراهم، وتعويض الجميع، ومحاسبة المتورطين بالقتل والانتهاكات من جميع الأطراف، والتخلي عن خطاب الانفصال والانغلاق.
الدروز اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستمروا في ترديد شعارات “الكرامة وحصن الجبل” فيدخلوا في انتحار جماعي بطيء، أو أن يتحلوا بالعقلانية والمرونة السياسية ليحافظوا على وجودهم في قلب سوريا، فالزمن لا يرحم، ومن يعيش على الوهم ينتهي به الأمر إلى الزوال. وحدها البراغماتية قد تنقذهم.