خلال الستين عاماً الماضية، مارس نظام الأسد الأب، ومن بعده الابن، على الشعب شتى أنواع الديكتاتورية، حيث كان نظامهم مبنياً على نظام مخابراتي، ينتشر بين أفراد المجتمع بطريقة جنونية.
إذا أردت أن تعيش فعليك أن تخاف
هذه المعادلة التي أراد منا هذا النظام أن نتخذها عقيدة، فزرع في داخل كل فرد خوفاً يمنعه من التعبير عن آرائه، حتى ولو كان داخل منزله. وهناك مثل شهير: “الحيطان لها آذان”. وهذا الخوف الشديد نتج عن الاختفاء المفاجئ لأي شخص يأتي بحقه تقرير من الجواسيس المزروعين في كل مكان من قِبل هذا النظام، وبأنه “سيكون في خبر كان” لو جاء بحقه تقرير. لذلك تجنّب الشعب كله إبداء آرائه في شتى المجالات. هذا الخوف المزروع فيهم جعلهم يكتمون كل شيء، وأنتج لنا شعباً صامتاً، مقهوراً، خائفاً.
غسل دماغ ممنهج، يمارس على الشعب كله
قرر هذا النظام أن يغسل أدمغتهم حتى يتسنى له نشر أفكاره وصنع القطيع الخائف الراضخ. أنشأ المراكز الثقافية في جميع القرى والمدن، وعيّن عليها أشخاصاً موظفين من الحكومة، وأغلبهم تابعون لحزب البعث الاشتراكي ليصل إلى جميع الطبقات. ثم وضع المنهاج الدراسي الذي يصنع منك شخصاً عدوانياً للجميع إلا الحكومة والسلطة. وليكتمل مخطط الغسيل الدماغي أجبر المدارس جميعها على ترديد شعاره الخاص الذي يمتدح به الأب وبعده الابن، وزعمه أنهم “حماة الديار”. وجعل اللباس الحزبي لباساً رسمياً يعاقَب من لم يرتدِ شارات حزب البعث. هذا الحزب زرع في نفوس الشعب الكره تجاه العرب كلهم، لأنه يضع صورة الوطن العربي الذي يهدف لاحتلاله ونشر أفكاره فيه. وأقام بعدها المعسكرات في الصف الخامس التي تجعلك تشرب شعارات الحزب مع كل رشفة ماء، وتحيي السلطة مع كل لقمة، وقبل النوم وعند الاستيقاظ. وكتاب القومية الذي تدرسه كل يوم طيلة سنوات دراستك. وعندما تخرج إلى الشارع تسمع ذاك الحزبي الخبيث الذي يترنم بالشعارات الرنانة التي تجبَر على سماعها في كل جلسة يتواجد فيها. وفي الصف التاسع يستدعيك المعسكر مرة أخرى.
اعتمد ثلاث شهادات في مراحل الدراسة: السادس، والتاسع، والبكالوريا. والسجن الحقيقي يكون عندما تترك الدراسة على واحدة من هذه الشهادات. مثلاً: بعد السادس لن تكون قادراً على العمل إلا في وظيفة في المراكز الحكومية، ستقضي بها باقي حياتك بأقل الرواتب، والسلطة تمنّ عليك لأنها وظفتك عندها، وأنت تملك شهادة سادس. والتاسع كذلك ستأكل من صحتك ومن وقتك لكي تنجح بها، ثم لن يكون لديك سبيل إلا الوظيفة الملعونة صاحبة الدخل المحدود. ولا ننسى أنك ممنون لهم لأنهم أعطوك رتبة في الجيش على هذه الشهادة ولو كانت جندياً مثلاً.
وأنت مجبر على رؤية أصنام حافظ الأسد وبشار الأسد في كل مدينة تدخلها، وأنت تمشي بالشارع، أو داخل مكاتب الدوائر الحكومية وحتى على سيارات المؤيدين والحزبيين والجواسيس. وقد تراها موشومة على يد صديقك المعتوه. واعتمادهم نظام الخصخصة للشركات جعل الحكومة شريكاً فعلياً مع جميع الشركات والمستثمرين. وبهذا جعلوا من الدوائر الحكومية أماكن مجمَّدة توقف عندها الزمن والتطور، بسبب عدم مواكبة التكنولوجيا. ولذلك في عام 2024 سقط النظام السابق وهو يستخدم مستودعات الدوائر الحكومية لتجميع ملفات المواطنين الورقية التي أكل عليها الزمن وشرب، وبقي هذا الحال 53 عاماً.
قيام الثورة، وبداية التحولات الفكرية والثقافية
هذا النظام الفاسد المبني على أساسات من أحجار الدومينو بدأ يتهاوى مع الصيحة الأولى التي أسقطت الحجر الأول، وهو الخوف. وتهاوت الأحجار تباعاً، وبدأ الشعب يخرج من القوقعة ليتبنى أفكار الفوضى الواسعة، حيث انتشرت التنسيقيات والتجمعات، وبدأ كل تجمع يبني لنفسه أساساته بموقعه الجغرافي وتقسيماته بقسمه السياسي والعسكري. هذا ما جعل النظام يتهاوى تدريجياً حتى كاد يصل إلى مرحلة السقوط الفعلي قبل أن تدخل القوى الدولية الروسية والإيرانية لمساعدته على النهوض. وتدريجياً استطاع كسر عشرات آلاف الفصائل على الأرض السورية التي لم تندمج طيلة عدة سنوات. هذا ما جعلها أضعف ومكّن اللاعبين الدوليين من اختراقهم والتحكم ببعض الفصائل التي حاولت هدم الثورة. وفي عام 2018 انحسرت قوات المعارضة في محافظة إدلب، وبدأ الاندماج الفعلي وترك فكرة الفوضى وتبني فكر المؤسسات الحقيقية والبنية الواحدة.
هذا التحول استغرق عدة سنوات حتى بدأت تظهر ملامح الدولة. لكن الشعب ما زال يتبنى أفكاراً معادية ضد فكرة الحكومة والمؤسسات. وفي عام 2024 سقط النظام السابق ودخلت حكومة إدلب دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وقال كلمته الشهيرة: “يجب التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة”. هذه كانت نقطة تحول في الفكر الذي ثار على الدولة والحكومة والمؤسسات، ودفع الغالي والرخيص لكي يسقطها. لذلك من الصعب أن يتخلى عن عقلية الثورة بسهولة من عاش فيها لمدة أربعة عشر عاماً. ومنهم من أجبرته الظروف المعيشية على ترك الدراسة لكي يأكل هو وأهله. وهذا طبيعي في ظل هذه الحرب الطويلة وظروف قاسية حتمية، وترك المنزل والوطن والبقاء داخل خيمة دون أي شكل من أشكال الاستقرار. هذا الشعب الجبار كان قادراً على الصمود والقيام من تحت الرماد في ظروف غير مستقرة. وأقولها بكل صراحة: الثورة السورية صنعت معجزة سياسية وأعطت صورة مشرفة للثورات في القرن الواحد والعشرين.
كيف ينتقل الشعب من الشتات إلى الاستقرار
لقد عانى الشعب السوري في زمن الثورة من حالة عدم الاستقرار: “الوظيفي، والسكني، والدراسي، والعائلي، والمعيشي، والنفسي”. وهذا ما جعل الشباب يتوجهون إلى بناء أحلام صغيرة مع بذل جهد كبير ومتعب، لذلك لم يجدوا مقابلاً لكل هذا الإرهاق الجسدي والنفسي بسبب عدم وجود وطن أو عنوان ثابت أو وظيفة وأشخاص وأصدقاء. ولكي يهربوا من هذا الواقع المرير، كان لهم عدة أبواب للهروب إليها مثل البقاء بالماضي دون التفكير بالمستقبل، ومنها العمل الشاق والطويل الذي يتراوح من 12 إلى 15 ساعة، لكي ينسوا ويتجنبوا هذا الواقع.
عدم القدرة على الدراسة صنعت جيلاً لا يمكنه أن يحلم أو يضع أهدافاً كبرى وصغرى لأنها شبه مستحيلة، فهدفه الوحيد تأمين قوت يومه. والآن وبشكل مفاجئ ظهر لديه حالة من الاستقرار وصار لديه وطن، وهذا ما سبب له نوعاً من التشتت. لذلك ما يجب فعله الآن هو تعبيد الطريق الثقافي والفكري لهذا الشعب وبناء مسارات فكرية حرة ومنفتحة، وعقائد للجيش تختلف عن العقائد التي قاتلوا فيها النظام السابق بشكل ثورة. بل يجب إنشاء عقيدة قتالية مبنية على حماية الوطن الواحد بأخلاق ودون تعدٍّ على الآخرين. العقيدة الوطنية تبني جيشاً وطنياً، وتعبيد الطرق يبني شعباً يحلم ويهدف للوصول لما يريد، ولا يجد أمامه عقبات تمنعه من أن يصل لما يريد.
رسالة إلى وزير الثقافة: محمد ياسين صالح
هذه المهمة العظيمة في هذا الوقت الحساس تقع على عاتق هذا الرجل المشهود له بحسن الخلق وكثرة العلم وتحصيله للثقافة المحترمة التي نقدرها منذ زمن ونلتمسها في شخصه الرائع. ولذلك من الأفضل بدء تفعيل المراكز الثقافية المنتشرة في أرجاء البلاد، وإقامة دورات توعوية، وإتاحة الكتب اللازمة، وأجواء مناسبة لنشر ثقافة الاستقرار الفكري، والحث على نبذ الحروب والخلافات والطائفية والعنصرية.
إن بناء الشخصية السورية المتزنة التي تحترم جميع الطوائف والأعراق يحتاج إلى إنشاء منصات توعوية وبرامج مجانية للشباب، تتنوع بين:
• مهارات التواصل والتعامل.
• كيفية بناء الأحلام وترسيخ المبادئ واحترام القانون.
• دورات الإسعافات الأولية.
• تدريب الفتيات على الخياطة والتمريض والانخراط في المجتمع.
• دورات التحدث كمحترف، والوقوف أمام الكاميرا.
• تدريب المدربين، والتواصل في بيئات العمل والدراسة، والإلقاء.
كما يجب إقامة ندوات ثقافية وأدبية وشعرية، والتشجيع على معارض الكتاب والفنون والحرف اليدوية في جميع المحافظات. فهذه الأنشطة مجتمعة قادرة على صناعة جيل مستقر في جميع محاور الحياة، مؤهل للانخراط في ظروفه المختلفة، وقادر على فتح أبواب جديدة للمجتمع وتعلّم طرق جديدة لمواكبة التطورات السريعة في العالم.
لذلك أقول: إن تبني فكر الاستقرار هو الحل الأنجح، وبه نعبّد الطريق أمام هذا الشعب العظيم.