في محافظة كانت يوماً “خزان الجنوب السوري”، صار الماء اليوم أغلى من الذهب، البحيرات جفت، السدود تحولت إلى تراب، والينابيع التي كانت تضخ آلاف الأمتار المكعبة يومياً بالكاد تغطي نصف احتياجات السكان، هذه الأزمة ليست مجرد نقص طبيعي، بل نتيجة مباشرة لسياسات النظام الزائل الذي ترك وراءه تركة ثقيلة من استنزاف الموارد، إهمال مشاريع الري، وتشجيع الفوضى عبر السماح بحفر مئات الآبار غير القانونية، اليوم تدفع درعا ثمن تلك التركة التي جعلت بنيتها المائية هشة أمام أي ضغط مناخي أو سكاني.
نزيف على خط الثورة المائي
أكثر من نصف المياه المضخّة عبر خط الثورة المائي لا تصل إلى المنازل، التقديرات الرسمية تشير إلى أن 60% من الكميات تُهدر بسبب التعديات والسرقات، الخزان الرئيسي في درعا، الذي كان يحتاج يومين فقط للامتلاء سابقاً، يحتاج اليوم إلى أكثر من أسبوع كامل حتى يصل إلى مستواه الطبيعي.
ينابيع محاصرة
ينابيع الأشعري شريان حياة درعا، تعاني من حصار مائي بفعل الآبار المخالفة المنتشرة حولها، المفارقة أن غزارة النبع تعود ليلاً عند توقف المضخات غير الشرعية، وهو دليل واضح على أن الأزمة “مصنوعة” بيد البشر أكثر مما هي نتاج الطبيعة.
السيد لورنس أكراد في حديثه حول الوضع قال:
“مشروع الإرواء في خربة غزالة، الذي صُمم ليستمر لربع قرن، مهدد بالجفاف بسبب العدد الكبير من الآبار المحفورة على العروق المغذية للمحطة، جفاف هذا المشروع بات وشيكاً إذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة، أما مشروع الأشعري، فهو يُستنزف عبر مئات الآبار العشوائية في سهول طفس وداعل وعتمان، حيث تُهدر أكثر من 500 متر مكعب من المياه يومياً أثناء الضخ نتيجة السرقات، الأولوية اليوم قبل إزالة التعديات، هي ردم الآبار المخالفة بأي وسيلة، وفرض محاسبة صارمة على المخالفين”.
مياه الشرب لري المزروعات
بينما تصطف آلاف العائلات أمام صنابير جافة، تُستخدم كميات ضخمة من مياه الشرب لري الأراضي الزراعية في داعل، طفس، عتمان وطريق درعا، المزارعون يغمرون أراضيهم بالمياه العذبة لتحقيق إنتاج سريع وربح عاجل، لكن هذه الممارسة تُقارب الانتحار الجماعي، إذ تستنزف الموارد التي تحتاجها المحافظة للبقاء.
من السدود إلى المقابر المائية
بحيرة المزيريب: اختفت بفعل الحفر العشوائي والتغير المناخي.
سد درعا: تحوّل إلى أرض قاحلة بعدما كان يغذي مشاريع الري.
سد الوحدة (المشترك مع الأردن): تقلصت تغذيته بسبب الفوضى في إدارة الينابيع والروافد.
تحرك حكومي ومشاركة مجتمعية
أطلقت محافظة درعا حملات لإزالة التعديات ومصادرة الحفارات المخالفة، حيث تم ضبط أكثر من 16 حفارة حتى الآن، في محاولة للحد من نزيف المياه، لكن هذه الإجراءات وحدها غير كافية إذا لم تتحول القضية إلى مسؤولية مجتمعية.
الماء قضية وطنية
أدركت وزارة الطاقة والمياه خطورة الوضع، فأطلقت حملة وطنية تحت شعار:
“الماء نعمة فلنحافظ عليها – معاً نحمي كل قطرة”، مؤكدة أن الماء ليس مجرد سائل يومي، بل هو مستقبل سوريا، الحفاظ على الموارد مسؤولية تبدأ من المواطن العادي وتمتد إلى المؤسسات الرسمية، وأي تفريط بالقطرة اليوم يعني خسارة فرصة الغد.
إدارة الأزمات المائية: دروس من تجارب دول أخرى
الأزمة ليست قدراً محتوماً، فقد نجحت عدة دول في تجاوز ظروف أصعب:
الأردن: رغم أنه من أفقر دول العالم مائياً، اعتمد على إعادة استخدام المياه المعالجة بنسبة تصل إلى 90% في الزراعة، وربط ذلك بسياسات صارمة لمنع الحفر العشوائي.
سنغافورة: حولت أزمة المياه إلى فرصة عبر مشروع NEWater، الذي يعيد تدوير المياه العادمة لتصبح صالحة للشرب، حتى باتت مكتفية ذاتياً رغم صغر مساحتها.
تونس: وضعت سياسة وطنية قائمة على حصاد مياه الأمطار وتخزينها في برك صغيرة وسدود سطحية لخدمة القرى البعيدة، مما خفف الضغط على السدود الكبرى.
المغرب: أطلق برنامج “سدود صغرى ومتوسطة” لتعزيز الأمن المائي للقرى الزراعية، وفرض قيوداً على الزراعات المستنزفة للمياه مثل البطيخ والحوامض.
أي مستقبل ينتظر درعا؟
الخيارات واضحة أمام درعا:
ردم فوري للآبار المخالفة.
فرض أولويات الاستهلاك بحيث يُقدّم الشرب على الزراعة والربح.
تعميم ثقافة الحفاظ على المياه عبر المدارس، الجامعات، والمساجد.
إعادة توجيه السياسات الزراعية نحو محاصيل أقل استهلاكاً للمياه.
إشراك المجتمعات المحلية في إدارة الموارد وتطبيق الرقابة الشعبية.
فإما أن تواجه درعا استنزافها اليوم بقرارات صارمة وتكاتف أهلي، أو تُسجّل في التاريخ كمثال على محافظة قتلها العطش بأيدي أبنائها.
- محمد قنو