منذ أن عرف الإنسان مفهوم “الانتماء”، عرف معه خطر الانقسام. عبر التاريخ، لم تسلم أي أمة من ظاهرة المناطقية؛ فهي الوجه الاجتماعي لنزعة البشر نحو التمييز: بين شمال وجنوب، مدينة وريف، بدو وحضر. قد تختلف المسميات بين الشعوب، لكن الجوهر واحد: تقسيم الناس وفق جغرافيا ضيقة، وتحويل المكان إلى معيار للتفاضل.
هذه الظاهرة ليست حكراً على مجتمعنا السوري، بل هي مشترك إنساني قديم. غير أن خطورتها عندنا تتضاعف اليوم، لأننا في لحظة نحتاج فيها إلى كل خيط يوحّدنا، لا إلى جدار يفصل بيننا. إنّ وهم التفوق لمجرّد الانتماء إلى منطقة ما لا يبني حضارة، بل يزرع هشاشة في الروح ويُضعف جسد المجتمع.
من الناحية النفسية، يمكن تفسير المناطقية باعتبارها امتداداً لغريزة الانتماء؛ الإنسان يحتاج إلى جماعة تحيطه وتمنحه الأمان. لكن حين يُختزل الانتماء في دائرة ضيقة، يصبح أداة للإقصاء بدلاً من الحماية. هكذا تتحول الفطرة الطبيعية إلى سلاح يجرّنا إلى الخلف، بدل أن يدفعنا إلى الأمام.
آثارها ليست خفية: تفكك اجتماعي، ضعف في الثقة، تعطيل لأي مشروع تنموي، وإرهاق لشبابنا الذين يُفترض أن يكونوا طاقة النهضة لا ضحايا الانقسام. وأي بلد ينهض بنصف قلب ونصف عقل؟
الحل يبدأ من التربية، حين نعلّم أبناءنا أنّ قيمتهم تُقاس بما يقدّمونه، لا بالمنطقة التي جاؤوا منها. ويُستكمل في الثقافة والإعلام، حين نحتفي بالقصص التي تجمع لا التي تفرّق، ونقدّم صورة وطن واحد متعدد الألوان.
أنا ابنة القنيطرة، اكتب هذا المقال لا لأن المشكلة تخص محافظتي وحدها، بل لأنها تخص سوريا كلها. أكتبها بدافع الحب والأمل؛ الحب لوطن يستحق الوحدة، والأمل بجيل قادر أن يدفن هذا الميراث الثقيل، وأن يرفع راية واحدة تقول: نحن سوريون.