تُعتبر محافظة القنيطرة واحدة من المحافظات الفقيرة بالآثار العمرانية، بالمقارنة مع المحافظات السورية الأخرى، حيث إنك لو أردت البحث عن موقع مهم يعطي هوية بصرية للمحافظة، فإنك لن تجد سوى مدينة مدمَّرة اسمها مدينة “القنيطرة”، التي كان سوقها حتى نصف القرن العشرين يُعتبر ثالث أهم سوق تجاري في سورية بعد دمشق وحلب، والذي كان على طريق “القدس – دمشق”، وهو الطريق الذي يسلكه الحجاج عند زيارة القدس في طريق العودة إلى دمشق، وهذا ما أكسبها أهمية جغرافية منذ القدم. وهي المدينة التي أسسها “لالا مصطفى باشا” (لالا: يعني مربي السلطان في اللغة العثمانية، وكان مربي السلطان محمد الفاتح)، وتعاقب عليها الكثير من الدول والممالك، مثل: الإيتوريين العرب (ويقال: الإتوريين أو الأيتوريون)، وقيصرية فيليبس، والغساسنة العرب، والمماليك، والأيوبيين، والحمدانيين، والإخشيد، ثم العثمانيين، حتى قيام الدولة السورية الحديثة.
فأين اختفت هذه الأهمية التاريخية للمنطقة؟ ومن المستفيد من إخفائها؟ ولماذا؟
التقسيم الإداري لمنطقة القنيطرة:
قبل احتلال القنيطرة سنة 1967، مرت المنطقة بعدة تصنيفات إدارية، حيث إنها كانت تتبع في بداية الدولة السورية الحديثة محافظة دمشق برفقة ريف دمشق، ثم انفصلتا عن دمشق وأُدمجتا بمحافظة ريف دمشق، ثم بعد عدة سنوات انفصلتا إلى محافظتين، وظهرت محافظة القنيطرة سنة 1964، وتكوَّنت من منطقتين، وهما القنيطرة وفيق، وخمس نواحٍ هي: ناحية “خان أرنبة”، وناحية “الخشنية”، وناحية “فيق”، وناحية “منطقة القنيطرة”، وناحية “مسعدة”. وهذا التصنيف هو المعتمد حتى سنة 1967.
كيف غيَّر الاحتلال هوية المحافظة:
عندما دخلها الاحتلال الإسرائيلي، اعتمد اسم الجولان التوراتي للمنطقة، وهكذا تشكَّلت هوية جديدة اسمها “الجولان”، وهذا الاسم لم يُعتمد من الدولة السورية الحديثة (سنتطرق لهذا الموضوع في مقال لاحق قريباً). وهذا الاسم أطلقته فرنسا وإسرائيل على المنطقة لكي يكون لديهما مبرر تاريخي لقضم الأراضي السورية بحجة أنها من الأراضي الموعودة لشعب “إسرائيل”، والتي أشار إليها المستشرقون حين أتوا إلى الشرق الأوسط لتحديد الأراضي الموعودة والمدن التوراتية قبل قيام الكيان، وادّعوا أن محافظة القنيطرة هي أرض الجولان التوراتية. ولكن واجهتهم مشكلة كبيرة، وهي عدم وجود آثار يهودية على أرض القنيطرة، وهذا ما أوقعهم في مأزق، ودفعهم لسرقة الآثار من القنيطرة وإخفائها. وهذا عليه أدلة من شهود عيان في المناطق التي سُرقت آثارها قبل انسحابهم من القنيطرة سنة 1974. وبطبيعة الحال قاموا بإخفاء الآثار الموجودة بالقسم المحتل من القنيطرة وتهميشه إعلامياً.
شواهد ووقائع عمّا حدث:
سآخذ من قرية “مسحرة” مثالاً لهذه السرقة المتعمدة والتهميش المتعمد والإخفاء. في سنة 1973 دخلت إسرائيل إلى كامل المحافظة، ومن المناطق التي احتلتها قرية “مسحرة” – ناحية خان أرنبة – كان الأهالي يزينون بيوتهم ببقايا أثرية رومانية وبيزنطية وإسلامية كانت موجودة بالقرية قبل أن ينتقل عدد من العائلات من جبا إلى “مسحرة” سنة 1925، وعند بناء منازلهم استخدموا البقايا الأثرية للتزيين والبناء. وفي سنة 1974 أرسلت إسرائيل بعثات أثرية رقّمت الآثار حسب الأهمية التاريخية، ثم جاءت بعثات أخرى وسرقت أهم القطع. وعند انسحابها من القرية وعودة سكانها وجدوا بعض هذه القطع عليها أرقام ولم تُسرق؛ لأنها تقل أهمية عن تلك المفقودة. ولو حاولنا البحث الآن عن هذه القطع المسروقة في المواقع الإسرائيلية فلن نجد شيئاً يُنسب للمنطقة إلا بعض المقالات القديمة والمغيَّبة، لأنه تم إخفاؤها بشكل متعمد، والسبب أنها لا تدعم الرواية التوراتية ومزاعم المستشرقين الصهاينة بأن هذه المنطقة هي الجولان، وأنها كانت ضمن حدود مملكة يهوذا، لأنهم لم يجدوا أي شيء يرتبط باليهود ومملكتهم المزعومة. فالحل الوحيد هو أن يُخفي المجرم آثار الجريمة لكي يتسنى له سرد الرواية التي يختارها للمجتمع الدولي، وأخذ مبرر لقضم الأراضي السورية وكسب الأحقية التاريخية.
وقد وردت صور للقطع الأثرية التي سُرقت من “مسحرة” في مقال موجود بمجلة استكشاف إسرائيل (ص 185–186) بعنوان “عتب من باشان يصور ثلاثة آلهة” (BEN-DOV, M. “A Lintel from the Bashan Depicting Three Deities.” Israel Exploration Journal, vol. 24, no. 3/4, 1974, pp. 185–86. JSTOR). وجاء في المقال قصة دخولهم إلى مسحرة، وأنهم رقّموا القطع حسب الأهمية، ثم أخذوها من القرية. ومن هذه القطع عتب عليه ثلاث آلهة كان يزين بيت مختار القرية، وعند محاولة إخراجه من الحائط قاموا بكسره إلى نصفين، ولم يذكروا سبب الكسر أكان متعمدًا أم لا. ووجدوا حجرًا في حائط منزل محفورًا عليه أرنبان بريان، وعثروا على لوحة حائط مرسوم عليها سرير روماني، وبجانبها شخص يقوم بطقوس عبادة وثنية، وعلى أطرافه أغصان العنب البري. كل هذه القطع سُرقت واختفت بشكل متعمد، ولم يرد ذكرها إلا في هذا المقال المذكور أعلاه، مع وجود صور للقطع.
وأُنوه إلى وجود كتاب باسم تاريخ “مسحرة” سيتم نشره لاحقاً، وفيه صور المسروقات وترجمة المقال بالكامل. والعجيب أنك لن تجد هذه القطع في المتاحف اليوم، والخوف أن يقوموا بعرضها في متاحفهم على أنها آثار من مناطق مختلفة.
علاقة النظام المخلوع بالإخفاء والتهميش للمحافظة:
ومثل هذه الحادثة حصلت مع جميع القرى في القنيطرة التي انسحب منها الصهاينة سنة 1974. وساعد النظام المخلوع في تهميش المحافظة عندما أبقى على مدينة القنيطرة مدمَّرة، ولم يقم بإعادة إعمارها أو ترميم آثارها. وزاد في تهميش المحافظة عندما جعل متحف القنيطرة في المدينة المدمَّرة، ومنع التصوير داخله، حيث إن جميع القطع التي وُجدت في قرى المحافظة موجودة في المتحف المهجور. وإقرار قانون منع التصوير داخل المتحف زاد من التهميش. وبعد سقوط النظام المخلوع سنة 2024 تقدمت إسرائيل إلى المدينة المدمَّرة، وحصلت على المتحف وآثار القنيطرة بالكامل، وهذا يعود فضله للنظام المخلوع وإدارته. وفي الكتاب المذكور أعلاه توجد صور للقطع الموجودة في متحف القنيطرة المسروق، والمجهول مصيرها حتى الآن، والمستخرجة من قرى المحافظة وقرية مسحرة التاريخية.
أما عن السبب وراء ما حدث:
لا ننسى تهميش النظام المخلوع لأماكن أثرية مهمة في المحافظة، مثل الخان الموجود في خان أرنبة، الذي تم إغلاقه لأسباب مجهولة منذ عدة سنوات، وترك مواقع مهمة موجودة في عدة قرى، مثل “نبع الصخر”، و”أيوبا”، و”ممتنة”، و”أم باطنة”، و”مسحرة”، و”الكوم”، والتلال الأثرية حول هذه القرى، وتركها دون اهتمام أو محاولة لترميمها وجعلها واجهة سياحية للمنطقة. والسبب يعود لعزل المحافظة زمن المخلوع عن سورية، إذ كان من الصعب دخول أي مواطن سوري إليها إلا بتصريح أمني، ما جعلها محافظة مسروقة ثم مقتولة ومدفونة.
المستفيد الوحيد:
والمستفيد الأول من تغييب القنيطرة وآثارها هي إسرائيل التي سرقت وأخفت كل ما وجدته لتدعم روايتها التي سردتها للمجتمع الدولي، ولتدعم أحقيتها التاريخية بالمنطقة، ولتقنين الاسم التوراتي للمنطقة، وهو “الجولان”، ولتسويقه دولياً لكي تكون الأرض الموعودة متصلة ببعضها. وقد نجحت في هذا خلال سبعين عاماً من السرقة والإخفاء المتعمد، وساعدها النظام المخلوع على عزل المحافظة واعتماد اسم الجولان للمنطقة المحتلة (وهو الاسم غير الرسمي للمنطقة) لكي يعزلها عن الدستور السوري ومحافظة القنيطرة، ولكي يسوق رواية “تحرير القنيطرة” عندما رفع حافظ الأسد علم سورية على أنقاض المدينة المدمَّرة، مع أن الثابت أنه لم يُرفع في المحافظة إلا العلم فقط. والتقدم الأخير الإسرائيلي للمدينة وسيطرته على متحف القنيطرة كان الضربة الأخيرة التي قتلت المحافظة إلى الأبد.
لذلك نحن أبناء القنيطرة يحق لنا سؤال جميع الأطراف: ما هو مصير تاريخ المحافظة ومستقبلها؟
- عامر عثمان الخضر