في خضم الضجيج الإعلامي والاتهامات المتصاعدة تجاه وزير الإعلام السوري، تبرز ضرورة التوقّف للحظة، بعيداً عن ردود الفعل الانفعالية، لمساءلة جوهرية: “هل ما حصل يستحق فعلاً كل هذه الهجمة والمطالبات المتعجلة باستقالته”؟ أم أننا أمام قراءة مُتسرّعة لمشهد أعمق مما يبدو على السطح؟
من المهم أن نغادر ساحة ردود الأفعال السريعة، ونحاول النظر من زاوية أخرى؛ زاوية تتقصّى الدوافع والمضامين لا مجرد العناوين.
قبل أسبوعين فقط، تدخّل وزير الإعلام بشكل شخصي للمطالبة بالإفراج عن صحفي موقوف في محافظة القنيطرة، بعد اعتقاله من قبل جهاز أمني، وكنتُ على إطلاع مباشر بها، هذه الحادثة لم تكن الوحيدة، فقد سبقها تدخل مباشر منه في حالات مشابهة، بينها تواصله مع صحفيين تعرضوا للاعتداء في السويداء، ودعاهم لمكتبه، وتابع قضيتهم!
هذا النمط من السلوك السياسي والإداري لم يكن يوماً مألوفاً في سوريا، لقد نشأنا في بيئة تدار فيها ملفات الصحفيين والإعلاميين خلف الأبواب المغلقة، والأفرع الأمنية، وغالباً بعقلية فوقية أمنية لا تقيم وزناً للحقوق أو الحريات.
من البديهي أن يُساءل أي مسؤول عن تصرفاته، ولكن ما هو غير مقبول، هو أن تتحوّل المساءلة إلى حملات تشويه ممنهجة تقترب من ردّات الفعل وتبتعد عن أي بُعد موضوعي.
وزير الإعلام، في تعاطيه مع هذه القضايا، لم يظهر كموظف حكومي يحاول تصفية حسابات أو فرض أيديولوجيا معيّنة، بل بدا كصاحب مشروع يتعامل مع الإعلام بوصفه سلطة رابعة حقيقية لا ديكوراً دعائياً تابعاً، بل إن تصرفاته يمكن قراءتها كمؤشر على رؤية جديدة داخل الدولة رؤية تعترف بضرورة حماية حرية التعبير ومأسسة العلاقة بين السلطة والصحافة.
هل نرفض الوزير لأنه يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والإعلام؟
في بيئة ما زالت متأرجحة بين ترِكة النظام البائد ومقتضيات التغيير، يصعب على البعض تقبّل شخصية مسؤولة تُحدث خرقاً في النموذج التقليدي للعلاقة بين الدولة والإعلام، ولذلك، فإن هذا الرفض الغاضب قد لا يكون موجّهاً ضد الوزير كشخص، بقدر ما هو رد فعل تلقائي ” جمعي” تقوده لعنة مواقع التواصل، وهذا مفرز طبيعي لتحوّلات كبيرة يشهدها المجتمع السوري! وهنا لا يعني أن الوزير معصوم عن الخطأ، بل يعني أن تقييم أفعاله يجب أن يتم ضمن السياق الكامل، لا من خلال اقتطاع حادثة واحدة وتحويلها إلى عنوان للهجوم.
إذا شئنا أن نكون منصفين، علينا أن نعترف بأن ما يقوم به الوزير يفتح بوابات كانت موصدة لعقود، بوابات تقود إلى فضاء أرحب لحرية التعبير، وتعيد الاعتبار لكرامة الصحفي، كفاعل وليس كأداة، وهذه خطوة من صلب أهداف الثورة، لا خارجة عنها.
لقد طالبنا لسنوات بمسؤولين يعبّرون عن صوت الدولة لا عن سياطها، عن انفتاحها لا عن نزعتها الإقصائية، وها نحن اليوم نشهد سلوكاً سياسياً ينبع من هذا التصور، فهل يكون جزاؤه المطالبة بالتنحية، بدلاً من التقويم والدعم؟، فالوزير تصرف بمنطق الدولة، لا بردود أفعال شخصية، لم يصنف الصحفيين حسب مواقفهم من الثورة أو من السلطة، بل بادر إلى الدفاع عن حقهم في التعبير والحماية، وهذه القيمة هي التي ناضل من أجلها كثير من السوريين، وهي التي ينبغي أن نقيس بها أفعال المسؤولين لا بمعايير اللحظة السياسية أو الاصطفاف الإيديولوجي.
المطلوب اليوم ليس شيطنة التجربة، بل تعزيزها وتطويرها دعم مسؤول يُمارس وظيفته بوصفه حامياً للكلمة لا خائفاً منها، وإن كنا جادين في بناء دولة حقيقية، فعلينا أن نحتفي بكل بوابة تُفتح على الحريّة، لا أن نغلقها بذرائع شتّى!