جماهير سورية تحيي ذكرى التحرير

تمر سورية بمرحلة انتقالية فارقة بعد أن قدّم رجالٌ أرواحهم ودماءهم في سبيل تحرير الوطن واستعادة السيادة، دون أن يكون هدفهم سلطة أو مكاسب شخصية، بل بناء دولة حرة مستقلة تحفظ كرامة شعبها. ومع قيام سلطة انتقالية لإدارة المرحلة الجديدة، ظهرت أصوات معارضة، وهو أمر طبيعي في أي تجربة سياسية، لكن المقلق أن بعض هذه الأصوات تجاوزت حدود النقد المشروع لتتحول إلى خصومة مع الوطن نفسه، عبر تحالفات خارجية، وتبرير العقوبات، والسعي إلى تقسيم الأرض ونهب الثروات.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يجوز أن نهدم الوطن كلما اختلفنا مع السلطة؟ وهل يمكن أن تتحول الخلافات السياسية إلى معاول تهدم مؤسسات الدولة وتضحيات شعبها؟

رغم أن الحكومة الانتقالية لم يمض على استلامها سوى أشهر قليلة، إلا أنها حققت إنجازات ملموسة في تثبيت الاستقرار وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. هذه الجهود، مهما كانت محدودة في بداياتها، تمثل بارقة أمل لشعب أنهكته سنوات الحرب والعقوبات. إن محاولة عرقلة هذه المسيرة أو تشويهها لا تعني معارضة سلطة بعينها، بل تعني ضرب مشروع الوطن في أساسه. لذلك فإن دعم هذه الجهود في المرحلة الراهنة ليس خياراً سياسياً فحسب، بل واجب وطني.

الثقة الشعبية اليوم تميل إلى السلطة الانتقالية التي جاءت ثمرة التضحيات، بينما تفتقر المعارضة الحالية إلى المصداقية، إذ ارتبطت بأجندات خارجية أو تورطت في ملفات فساد وجرائم، وبعضهم كان مرتبطاً بجرائم مع الأسد الفار فيسعى من خلال معارضته للسلطة الجديدة الحصول على لجوء سياسي في الخارج، فيما يواصل آخرون خلافاتهم مع السلطة منذ أن كانت في إدلب، وكأنهم أسرى لماضٍ شخصي لا لمصلحة وطنية. هذه المعارضة لا تقدم بديلاً وطنياً، بل خطاباً مشوشاً يضاعف الانقسام ويخدم مصالح خارجية أكثر مما يخدم الشعب.

الأمثلة على هذا النمط من المعارضة عديدة: تحالف بعض القوى في السويداء مع إسرائيل، العدو التاريخي للعرب والمسلمين والمحتل للأرض، وهو تحالف يتجاوز النقد السياسي إلى تهديد مباشر للسيادة؛ سعي رابطة العلويين إلى منع رفع قانون قيصر، وهو قانون عقوبات خانق يضاعف معاناة المواطن ويجعل الاقتصاد رهينة للقرارات الخارجية؛ مشاريع “قسد” التي تستهدف الانفصال والسيطرة على الثروات الوطنية؛ وأخيراً نشاط شخصيات عامة وناشطين، بعضهم متورط في جرائم أو فساد، يروّجون لروايات انتقائية ويذهبون إلى حد الاجتماع مع الكونغرس الأمريكي لعدم رفع العقوبات، في موقف يضاعف الأعباء على الشعب ويُظهر انحيازاً لمصالح خارجية.

الآثار المترتبة على المعارضة ضد الوطن:
إن المعارضة التي تتجاوز حدود النقد السياسي لتستهدف الدولة ومؤسساتها لا تترك أثرها في مجال واحد، بل تُحدث سلسلة من التداعيات المتشابكة. فعلى المستوى السياسي، تؤدي هذه الممارسات إلى إضعاف الشرعية الوطنية، وتفتح الباب أمام القوى الخارجية للتدخل في القرار السيادي، مما يهدد استقلالية الدولة ويجعلها عرضة للوصاية.

وعلى المستوى الاجتماعي، تُغذي هذه المعارضة الانقسامات الطائفية والمناطقية، وتزرع الشك بين مكونات المجتمع، فتتحول الخلافات السياسية إلى صراعات هوية تهدد النسيج الوطني. أما على المستوى الاقتصادي، فإن دعم العقوبات أو تبريرها يضاعف الأزمات المعيشية، ويُفقد المواطن ثقته بقدرة الدولة على حمايته، ويجعل الاقتصاد رهينة للضغوط الخارجية، وهو ما ينعكس مباشرة على معدلات الفقر والبطالة وهجرة الكفاءات.

وعلى المستوى الأمني، فإن مشاريع الانفصال والتحالفات المشبوهة تفتح ثغرات خطيرة في بنية الدولة، وتُضعف قدرتها على ضبط الحدود وحماية الموارد، مما يخلق بيئة خصبة للفوضى والعنف. وأخيراً، على المستوى الرمزي والإعلامي، فإن الخطاب المضلل الذي يروّج لروايات انتقائية يُضعف الثقة بالمؤسسات، ويشوّه صورة الوطن أمام العالم، ويجعل من المعارضة أداة لتقويض المعنويات الوطنية بدل أن تكون رافعة للإصلاح.

المطلوب اليوم هو فتح قنوات حوار وطني تسمح بالاعتراض والنقد ضمن مؤسسات الدولة، لا خارجها، وتجريم كل من يعمل على إضعاف السيادة أو بث الطائفية والفتنة بين مكونات الشعب. كما يجب تبني موقف مبدئي يرفض الاستعانة بالخارج أو التحالف مع عدو محتل لمواجهة السلطة، مع تعزيز الشفافية في المعلومات لتفكيك التضليل الإعلامي، ونشر تقارير دورية بالمعطيات الاقتصادية والسياسية، وتقديم ردود مؤسساتية متزنة. العدالة الانتقالية بدورها يجب أن تكون شاملة، تُساءل الجميع وفق القانون، بعيداً عن الانتقام أو الانتقائية، لتضمن بناء مستقبل متوازن يليق بتضحيات السوريين.

في الختام، سورية لا تحتاج إلى هدم جديد، بل إلى بناء متواصل. لا تحتاج إلى معارضة مأزومة تُعيد إنتاج الانقسام، بل إلى معارضة مسؤولة تُثري الحياة السياسية وتدفع نحو الإصلاح دون أن تهدد وحدة الدولة أو تُضعف ثقة الشعب بمؤسساته. إن التضحيات التي قُدمت لتحرير الوطن لا يجوز أن تُختزل في صراع على السلطة، بل يجب أن تُترجم إلى مشروع وطني جامع يحمي الدولة ويصون كرامة السوريين، ويعيد الاعتبار لمفهوم السيادة والقرار الوطني المستقل بعيداً عن التحالفات المشبوهة والضغوط الخارجية.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top