صورة تمثال حافظ الأسد مدمر بعد سقوط النظام

سوريا بين إعادة تشكيل الدولة وتوازنات الإقليم بعد سقوط أقدم دكتاتورية

يصادف الثامن من كانون الأول/ديسمبر مرور عام على سقوط أقدم منظومة حكم عائلية في الشرق الأوسط الحديث، بعد أكثر من خمسة عقود من السلطة المركزية المغلقة، وأربعة عشر عامًا من الثورة والصراع الذي أعاد رسم الجغرافيا السياسية للبلاد. لا يمكن النظر إلى الحدث بوصفه مجرد انتقال في السلطة، بل هو انهيار لبنية سياسية وأمنية راسخة كانت تتحكم بالدولة والمجتمع عبر شبكة واسعة من الولاءات والردع والعنف المنهجي.
السنة الأولى بعد سقوط النظام تتيح اليوم مساحة لتقييم أولي: ما الذي تغيّر؟ وما الذي بقي؟ وكيف تبدو ملامح سوريا وهي تعيد هندسة مؤسسات الحكم وتوازناتها الإقليمية؟

أولًا: التحولات البنيوية بعد عام من التحرير

1. تفكك منظومة الخوف وصعود المجال العام

أهم ما نتج عن سقوط النظام السابق هو تفكك العقد غير المعلن الذي حكم علاقة الدولة بالمجتمع لعقود، والذي كان يقوم على معادلة: الأمن مقابل الصمت.
ففي العام الأول، شهدت البلاد تراجعًا واسعًا في ممارسات الاعتقال التعسفي وغيابًا شبه كامل لآليات القمع التي كانت تحمي السلطة من النقد والمساءلة.
بروز المجال العام—الشارع، الإعلام المحلي، المنظمات المدنية—يمثّل تحولًا بنيويًا في السياسة السورية، إذ أصبح المواطن عنصرًا فاعلًا في إنتاج الخطاب العام وليس مجرد متلقيًا له.

2. إعادة فتح الجغرافيا السورية وإزالة الحواجز

إزالة الحواجز العسكرية لم تكن خطوة خدمية فقط، بل كانت خطوة سياسية بامتياز؛ فالبلاد التي قُسّمت خلال الحرب إلى مربعات أمنية باتت اليوم أقرب إلى وحدة جغرافية فعلية.
أُعيد دمج المدن اقتصاديًا واجتماعيًا، وعادت حركة السفر الطبيعية، ما أعاد للدولة قدرتها على إدارة مساحات واسعة دون الاعتماد على مراكز قهر محلية.
هذا التحول يسهّل على الحكومة مستقبلًا بناء سلطة مركزية رشيدة ترتكز على القانون بدلًا من أدوات الضبط القسري.

3. عودة المجتمع المدني كفاعل سياسي

كان المجتمع المدني في سوريا قبل الثورة مُصادَرًا أو مُخترقًا أو محدود الفعالية. أما بعد التحرير، فقد برز بوصفه أحد أعمدة المرحلة الانتقالية.
منظمات محلية تولّت إدارة مرافق خدمية، وإطلاق حملات لعودة المهجّرين، وترميم المدارس والبنى الأساسية.
الأهم أن المجتمع المدني أصبح قناة اتصال بين الدولة والناس، ووسيطًا سياسيًا يحدد مزاج الشارع ومطالبه. وهذا يمثّل خروجًا واضحًا من نمط الدولة الأمنية إلى نمط الدولة التشاركية.

4. مؤشرات تعافٍ اقتصادي نسبي

رغم استمرار الصعوبات، شهد الاقتصاد السوري تحولات تدريجية نحو التعافي:

  • عودة التبادل التجاري بين المحافظات.

  • تحسن نسبي في الصادرات الزراعية إلى دول الخليج.

  • استئناف نشاط مئات الورش والمصانع الصغيرة.

تظل هذه المؤشرات هشّة، لكنها تعكس قدرة الاقتصاد السوري على التقاط أنفاسه عندما تتوفر بيئة أمنية أكثر استقرارًا. إلا أن التحديات النقدية والعقوبات – وخاصة قانون قيصر – تشكل عقبة حقيقية أمام تحقيق انتعاش واسع.

5. تحجيم تجارة الكبتاغون: استعادة السيادة الأمنية

الحملة الوطنية ضد الكبتاغون كانت أحد ملفات الشرعية السياسية للحكومة الجديدة.
فهذا الملف لم يكن مجرد مكافحة مخدرات، بل كان تحريرًا لقرار الدولة من شبكات عابرة للحدود ارتبطت بالنظام السابق وحلفائه الإقليميين.
تفكيك هذه الشبكات حسّن الأمن الداخلي وفتح بابًا لإعادة بناء الثقة الإقليمية، خاصة مع الدول الأكثر تضررًا من تهريب المخدرات.

6. تراجع النفوذ الإيراني وإعادة معايرة العلاقات الخارجية

انهيار النظام السابق أسقط البنية التي سمحت لإيران بالتغلغل العسكري والاقتصادي والطائفي داخل البلاد.
التراجع الواضح لمشاريع طهران أتاح للدولة السورية مساحة أوسع لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية على أسس أكثر توازنًا، خصوصًا تجاه الخليج وتركيا والأردن.
وفي الوقت ذاته، هناك ترقّب إقليمي واضح لأي تحرك قد يعيد التموضع الإيراني، ما يجعل الملف جزءًا من ديناميكيات الأمن الإقليمي الأوسع.

7. انفتاح مؤسسات الحكم وتفعيل الرقابة الشعبية

أصبح المواطن شريكًا مباشرًا في الرقابة على الأداء الحكومي عبر المجالس المحلية والهيئات المنتخبة بدايةً.
هذه المشاركة ليست مجرد تحول إداري، بل هي انتقال تدريجي نحو شرعية قائمة على المشاركة بعد عقود من الشرعية المفروضة بالقوة.

ثانيًا: التحديات والملفات العالقة

1. انتشار السلاح وتعدد مراكز القوة

لا يزال السلاح المنفلت يمثل التحدي الأكثر إلحاحًا على المستوى الأمني والسياسي.
تحتاج الدولة إلى استراتيجية متقدمة لنزع السلاح وإعادة دمج المسلحين ضمن المؤسسات أو سوق العمل، وإلا ستبقى البنية الأمنية هشّة وعرضة للاهتزاز.

2. إعادة الإعمار: فجوة بين الاحتياجات والقدرة

حجم الدمار يُقدّر بعشرات المليارات.
الكهرباء والمياه والطرق والمدارس بحاجة إلى إعادة بناء شاملة، بينما قدرات الدولة ما زالت محدودة، والاستثمارات الأجنبية مشروطة باستقرار سياسي طويل الأمد، إضافةً إلى تأثيرات العقوبات.
بعض المشاريع بدأت، لكن الفجوة كبيرة بين ما هو مطلوب وما هو ممكن.

3. الأزمة الاقتصادية وتحديات العقوبات

الضغوط الاقتصادية القائمة – من تراجع قيمة العملة إلى نقص السيولة وارتفاع تكلفة الواردات – تشكل تحديًا وجوديًا للدولة.
تخفيف العقوبات أو إعادة هيكلتها أصبح ضرورة لإطلاق عجلة التعافي، لكن هذا الأمر مرتبط بمفاوضات سياسية لا تزال في مراحلها الأولى مع الأطراف الدولية.

4. الفلول والمناطق الخارجة عن السيطرة

وجود مناطق في الجزيرة السورية خارج سيطرة الدولة يجعل مسار الاستقرار هشًا.
تحركات فلول النظام السابق لتعكير المشهد تزيد من صعوبة المرحلة، إضافةً إلى نشاط أطراف إقليمية متضررة من سقوط النظام، مثل إيران وبعض الجهات الإسرائيلية، في محاولة للتأثير على تموضع سوريا الجديد.

 سوريا بين إعادة البناء وإعادة التأسيس

بعد عام على التحرير، يمكن القول إن سوريا دخلت مرحلة إعادة التأسيس وليس مجرد إعادة البناء.
فالعلاقة بين الدولة والمواطن تغيّرت جذريًا:
الدولة تتجه إلى تعزيز شرعية أدائها، والمواطن ينظر إلى نفسه كفاعل سياسي، لا كرقم محايد.

المعادلة اليوم مختلفة:
لم تعد السلطة مركز القرار الوحيد، ولم يعد المجتمع مجرد متفرج؛ بل أصبح شريكًا في رسم مستقبل البلاد.

رغم ثقل التحديات – الأمنية والاقتصادية والإقليمية – إلا أن مسار التحول بات واضحًا:
دولة تحاول أن تستعيد مكانتها الإقليمية عبر بوابة الخليج، ومجتمع يحاول أن يعيد صياغة ذاته بعد نصف قرن من القمع.

ويبقى الحدث الأكبر، أي سقوط النظام، نقطة انعطاف أعادت تعريف سوريا والمنطقة.
أما العبارة التي لخّصت اللحظة الشعبية فما تزال الأكثر تعبيرًا عن المفصل التاريخي الذي تعيشه البلاد:

“تحررنا”.

 

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top