يروي لنا التاريخ قصة مدينة بومبي الإيطالية، تلك المدينة التي طمسها بركان فيزوف عام 79 ميلادي تحت طبقات كثيفة من الرماد، لتغدو أثراً بعد عين. لم ينجُ من كارثتها شيء تقريباً؛ المنازل اندثرت، الجثث تجمّدت في لحظاتها الأخيرة، والزمن توقّف عند لحظة الفاجعة التي ظلت مدفونة حتى اكتشافها بعد قرابة 1700 عام. بومبي ليست مجرد قصة دمار، بل قصة مدينة تُركت لتُنسى، ولم يمدّ لها أحد يد الإنقاذ في وقتها.
اليوم، وعلى بُعد آلاف الكيلومترات من إيطاليا، يعيد المشهد نفسه تشكيل ملامحه بصيغة مختلفة في مدينة الحجر الأسود جنوب دمشق. هناك، لا يوجد بركان ولا رماد، لكن “بركان الحرب” فعل فعله، تاركًا خلفه مدينة مدمّرة بالكامل، غارقة في الأنقاض، مقفرة من الحياة، ومغيّبة عن أي خطة حكومية جادة لإعادة تأهيلها.
الحجر الأسود – تلك المدينة التي شكّلت يوماً بوابة لجنوب العاصمة – أصبحت الآن رمزاً للنسيان، كأنها خارج المجال الجغرافي والبشري لسوريا، تمامًا كما خرجت بومبي من الذاكرة البشرية لقرون.
مدينة منسية… ومسؤول غائب بالحضور
منذ سنوات والحجر الأسود تُشبَّه بمدينة ميتة، لا تزورها المنظمات الدولية إلا لماماً، ولا تتضمنها الوفود الأممية التي تنشط في مناطق أخرى من دمشق. شرق العاصمة وغربها يحظيان بالزيارات، أما الجنوب — وبشكل خاص الحجر الأسود — فيبدو وكأنه خارج الخريطة نهائياً، رغم أن حجم الدمار والمأساة الإنسانية فيه يفوق كثيراً المناطق التي حظيت ببعض الاهتمام.
يُضاف إلى هذا التجاهل غياب شبه كامل للحكومة السورية عن واجباتها في هذه المناطق. فالمحافظ، الذي يفترض به أن يكون “أبًا” للمنطقة ومسؤولًا مباشرًا عن خدماتها، لا يبدو سوى “محافظ على الورق”. لا حضور ميداني، لا متابعة للخدمات، ولا مشاركات تُذكر في أي مشروع خدمي أو إنساني.
الناس هناك يعيشون في فراغ إداري كامل، وكأن علاقتهم بالمؤسسات الرسمية باتت علاقة شكلية لا تتجاوز القرارات الورقية التي لا تجد طريقها نحو التنفيذ.
الأهالي.. عندما تتخلى الدولة، ينهض الفقراء
ومع تراجع الأمل في دعم حكومي حقيقي، اتجهت تجمعات أبناء الجولان — سواء في ريف دمشق أو القنيطرة — نحو الاعتماد على أنفسهم. بدأ الأهالي بتنظيم حملات أهلية وجمع تبرعات لإعادة إصلاح ما يمكن إصلاحه من البنية التحتية المنهارة:
- شبكات الصرف الصحي
- الإنارة
- تنظيف الشوارع
- إصلاح المرافق العامة
- دعم الخدمات الأساسية خلال الشتاء، حين تبلغ المأساة ذروتها
هذه المبادرات لم تنطلق من رفاهية، بل من حاجة الحياة. الناس هناك يعيشون في مناطق دمار، ومؤسسات الدولة لا تحضر إلا عبر التصريحات. أمام هذا الفراغ، وجد الأهالي أنفسهم مضطرين لسدّ العجز بأنفسهم.
في تجمع البويضة وحجيرة بريف دمشق، بدأت حملات منظمة لجمع التبرعات بين السكان، رغم أنهم من الفئات الفقيرة في الأصل. أكثر من 60 ألف دولار جمعتها حجيرة وحدها — من جيوب أنهكتها الحرب — لإصلاح الخدمات الأولية.
أما في منطقة الرفيد في ريف القنيطرة، فقد جرى جمع عشرات الآلاف من الدولارات أيضًا، دون أي دعم حكومي، وبوجود حاجة ملحة إلى جهود إنسانية لا تأتي.
هذه الأرقام ليست ضخمة بمعايير الدول، لكنها ضخمة بمعايير الفقراء الذين تبرعوا بها. إنها مؤشر واضح على تحول جذري في العلاقة بين الأهالي والدولة: علاقة لم تعد تقوم على الاعتماد، بل على الانفصال التدريجي.
الحجر الأسود: الكارثة الأكبر
لكن، رغم كل ما سبق، تبقى الحجر الأسود أكبر العقد وأعمقها. المدينة تحتاج إلى معدات ثقيلة لرفع الأنقاض، تحتاج إلى مشاريع هندسية وإغاثية واسعة، تحتاج إلى جهود دولة أو عدة دول. فأنقاضها ليست عادية، بل أبنية كاملة منهارة فوق بعضها، وجثث ما زالت مدفونة تحت الركام منذ سنوات.
هذه النوعية من الدمار لا تُعالج بمبادرات أهلية، ولا بجمع 50 أو 60 ألف دولار، بل تحتاج إلى خطط حكومية ضخمة وكوادر متخصصة. ومع غياب ذلك، يبقى السؤال المؤلم:
هل ستظل الحجر الأسود مدينة منسية لعقود طويلة، تعيش مصير بومبي، تنتظر أن تعود للأذهان بعد أجيال؟
ما وراء الخدمات: أزمة ثقة أم بداية انفصال؟
تجمعات أبناء الجولان اليوم لا تنفصل عن الحكومة السورية سياسياً، لكنها تنفصل عنها خدمياً ومعيشياً. ما بدأ باعتباره مبادرات أهلية لسدّ النقص، تحوّل تدريجيًا إلى منظومات محلية لإدارة المجتمع. هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية:
- هل نحن أمام حالة طلاق خدمي فقط؟
- أم أن هذا الطلاق يمكن أن يتوسع نحو مسارات اجتماعية وسياسية؟
- كيف ستتعامل الدولة مع مناطق بدأت تبني لنفسها إدارة بديلة؟
- وما انعكاس ذلك على مستقبل الجنوب السوري عمومًا؟
هذه الأسئلة لا تأتي من فراغ، بل تنبع من الواقع الذي يعيشه الناس منذ سنوات. الثقة بين المواطن والدولة تآكلت إلى حد كبير. والخدمات هي عادة الحدّ الأدنى الذي يحفظ هذه الثقة، وعندما يغيب هذا الحدّ الأدنى، تبدأ الروابط بالتفكك تدريجياً.
الدولة الغائبة.. والمجتمع الذي يعيد تشكيل نفسه
تظهر مشكلة الحجر الأسود وتجمعات الجولان كنموذج لمرحلة جديدة تعيشها سوريا: مجتمعات محلية بدأت تأخذ زمام المبادرة، ليس اختياراً بل اضطراراً، في ظل وجود دولة تتراجع قدراتها وإمكاناتها في إدارة شؤون الناس.
هذا المشهد لا يُقرأ فقط من زاوية الخدمات، بل من زاوية إعادة تشكيل علاقة المواطن بالسلطة، وتحوّل المجتمع المحلي إلى وحدة مرجعية بديلة حين تغيب الدولة.
الناس هناك لم يعودوا ينتظرون الدولة، لأن الانتظار أصبح عبئاً، والمبادرة الذاتية أصبحت الخيار الوحيد للبقاء.
ختامًا: هل بدأ الطلاق فعلًا؟
عندما تبدأ التجمعات المحلية بإنشاء صناديق مالية خاصة، ولجان خدمية أهلية، وإدارة ذاتية للبنى التحتية، في منطقة يُفترض أنها خاضعة لإدارة حكومية كاملة، فذلك يعني أن العلاقة بين الطرفين لم تعد كما كانت.
لا يزال الطلاق بين الحكومة السورية وتجمعات الجولان غير معلَن، لكنه ممارس فعلياً على الأرض، فالدولة -بتجاهلها – وضعت الناس أمام خيار وحيد: أن يعتمدوا على أنفسهم. والناس، رغم فقرهم ومعاناتهم، اختاروا أن يفعلوا، يبقى السؤال الأوسع:
هل سيتحوّل هذا الطلاق الخدمي إلى طلاق شامل؟
أم أن الحكومة ستعود قبل أن يتحول النسيان إلى قطيعة كاملة؟ الزمن وحده – ومعه أفعال الدولة – سيجيب عن هذا السؤال.
لكن الثابت حتى الآن أن مجتمعات الجولان بدأت فصلاً جديداً في علاقتها مع السلطة، فصلاً قد يعيد رسم شكل العلاقة بين المواطن والدولة في مناطق كثيرة من سوريا، لا في الجنوب وحده. فهل نحن أمام ظاهرة محلية… أم بداية تحول وطني أوسع؟






