خريطة العالم رسمها العالم إيراتوستينس

تُعدّ باشان واحدة من أقدم الأقاليم التاريخية في جنوبي بلاد الشام، وقد ظهرت بوصفها منطقة آهلة بالسكان منذ العصر البرونزي الأوسط، أي قبل أكثر من 1800 عام قبل الميلاد، حين كانت الهضاب البازلتية الممتدة من حوران إلى الجولان تشكّل مجالًا جغرافيًا يوفر الاستقرار البشري من خلال خصوبة تربتها ووفرة مراعيها ومواردها المائية الموسمية.

وتشير الأدلة الأثرية إلى أن المنطقة سكنها شعوب سامية قديمة أبرزها العموريون، الذين أسسوا مشيخات وقوى قبلية تطورت لاحقاً إلى كيان سياسي شبه ملكي، كما سكنها الكنعانيون الذين امتد وجودهم عبر كامل بلاد الشام، إضافة إلى مجموعات محلية عُرفت في المصادر بالرفائيين، وكانت تلك المجموعات تشكّل النسيج السكاني الأصلي للباشان قبل تكوّن أي وجود يهودي في المنطقة.

إن تتبع تاريخ باشان من خلال الحفريات في مواقع مثل أذرعات وأشتروت وقرى اللجاة البازلتية يوضح وجود عمران متماسك واستيطان مستمر منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، وهو ما يؤكد حقيقة رسوخ المجتمع الباشاني قبل ظهور بني إسرائيل، إذ لم يظهروا في السجل الأثري إلا في العصر الحديدي الأول (حوالي 1200 ق.م)، وهو زمن متأخر كثيراً عن صعود القوى العمورية والكنعانية في باشان.

وتدعم النصوص القديمة هذا الاستنتاج، إذ تشير وثائق مصرية من فترة العمارنة إلى وجود مراكز حضرية في باشان قبل أي ذكر لإسرائيل، بينما تصوّر الرواية التوراتية نفسها باشان كـ“مملكة” قائمة يحكمها عوج بن عنق، ما يعني أن بني إسرائيل – وفق السرد التوراتي ذاته – لم يكونوا سكانها الأوائل، بل واجهوا سلطة محلية راسخة.
وتذكر التوراة أن مدن باشان كانت كثيرة ومحصنة، وهذا يتوافق مع المكتشفات الأثرية التي تظهر مستوى عمرانياً متقدماً، لا يمكن نسبته إلى بني إسرائيل، الذين لم يدخلوا المنطقة إلا بعد تشكّل تلك المراكز بقرون.
ووفق الدراسات الحديثة في علم الآثار التاريخي، تُعدّ باشان جزءًا من الحضارة السورية‑الكنعانية الممتدة، وقد اندمجت لاحقاً في دوائر القوى الكبرى كالآراميين ثم الآشوريين.
وتجدر الإشارة إلى أن تحديد هوية باشان وأصول سكانها أصبح في القرنين الماضيين موضوعا لمحاولات متعددة للتأويل السياسي، حيث تُستخدم بعض القراءات المتأخرة لإعادة نسب المنطقة إلى جماعات معاصرة أو ربطها بتاريخ حديث لا علاقة له بأصلها القديم.
وفي السياق ذاته، لا يوجد في السجل التاريخي ما يربط الدروز – كجماعة دينية ظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي – بتاريخ باشان في عصورها البرونزي أو الحديدي، ولا توجد أي علاقة تاريخية مباشرة بين الديانة الدرزية وبين الممالك العمورية أو الكنعانية في المنطقة.
كما أن الادعاءات الحديثة التي تحاول توظيف تاريخ باشان لغايات سياسية أو ترسيم روايات ملكية حديثة، سواء من قبل أطراف إسرائيلية أو غيرها، لا تستند إلى أدلة أثرية أو نصوصية موثوقة، بل تُعدّ قراءة سياسية معاصرة لا علاقة لها بالبحث الأكاديمي الذي يعتمد على الحفريات والوثائق التاريخية، إذ إن التاريخ العلمي للباشان ثابت في مصادره الأثرية حيث كان الإقليم موطنًا لشعوب سامية قديمة، وقد ازدهر قبل ظهور بني إسرائيل، واستمر حضوره كجزء من بلاد الشام حتى العصور الآشورية والهلنستية، ولم يكن له ارتباط ديني أو سياسي بأي جماعات ظهرت بعد ذلك بآلاف السنين.
وعند جمع المعطيات الجغرافية واللغوية والأثرية والنصوصية، يصبح من الواضح أن مملكة باشان، في حقيقتها التاريخية، كيان قديم سابق لبني إسرائيل، نشأ من تفاعل العموريين والكنعانيين و الرفائيين في منطقة الهضاب البازلتية، وأن محاولات نسب باشان إلى هويات دينية أو سياسية حديثة ليست إلا قراءات لاحقة لا تعتمد على أساس علمي.
إن تاريخ باشان، كما تثبته الدلائل، ينتمي إلى موجة الحضارات السامية الأولى في بلاد الشام، ويظل جزءًا أصيلًا من تراث المنطقة الذي سبق التوراة واليهودية بقرون طويلة، ولا يمكن اختزاله أو إعادة تشكيله بما يتوافق مع مشاريع سياسية معاصرة.

أما موقع مملكة باشان كما ورد في المصادر القديمة
تقع باشان على هضاب البازلت الممتدة بين جنوب سوريا وشمال شرق الأردن، وقد ذُكرت في المصادر القديمة كنطاق جغرافي مأهول ومستقر منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، أي قبل ظهور بني إسرائيل بقرون طويلة.
وتمتد حدود باشان شمالًا عند سفوح جبل الشيخ وجبل الحرمون، حيث تبدأ الهضاب البازلتية التي شكلت الجزء الأعلى من المملكة، وتمتد جنوبًا حتى شمال غور الأردن ووادي الزرقاء، أي تقريبًا من منطقة الرصيفة الحديثة في الأردن حتى مزارع الجولان في سوريا، وتضم المدن الرئيسة مثل أشتروت كرنايم وأذرعات وجولان، أما الشرق فيحدها الهضاب البازلتية في اللجاة والبادية السورية، وهي مناطق مفتوحة للمرعى والزراعة، بينما يشكل الغرب منحدرات الهضاب وصولًا إلى غور الأردن، حيث تتصل بالأراضي المنخفضة المحاذية لنهر الأردن.

هذه الحدود تعكس طبيعة باشان ككيان هضبي محمي بطبيعته الجغرافية، مما جعلها منطقة مستقرة سياسيًا وسكانيًا، مع التنويه أن هذه الحدود التاريخية تختلف عن القراءات السياسية الحديثة التي تحاول نسب المنطقة إلى جماعات لاحقة لأغراض سياسية.

شارك المنشور

مقالات ذات صلة

Scroll to Top