منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، شكّلت محكمة نورمبرغ عام 1945 نقطة تحوّل في مفهوم العدالة الدولية، حين حوكم كبار القادة النازيين على جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية. لقد كانت تلك المحكمة أول نموذج عالمي يُثبت أن الجرائم الكبرى لا تسقط بالتقادم، وأن الدولة — حتى في ذروة قوتها — لا تستطيع حماية مرتكبي الجرائم من المساءلة. وعلى خطى نورمبرغ، ظهرت المحاكم الجنائية الخاصة برواندا ويوغسلافيا، لتؤسس مبادئ راسخة في العدالة الدولية وتؤكد أن الجرائم الجماعية، مهما طال الزمن، ستجد طريقها إلى القضاء.
جرائم بحجم الوطن
يقف السوريون اليوم أمام مشهد يشبه ما مرّت به شعوب كثيرة عانت من الإبادة والتطهير العرقي. فالمقابر الجماعية التي تُكتشف في سورية بشكل شبه أسبوعي، وشهادات الناجين، وصور الضحايا، ووثائق السجون كملف “قيصر” وغيرها، باتت تُشكّل سجلاً دامغاً لجرائم تتجاوز في فظاعتها كثيراً من الجرائم التي حوكم مرتكبوها أمام محاكم دولية سابقة. شهدت سورية خلال سنوات الصراع أبشع أنواع الانتهاكات:
- استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين.
- إلقاء البراميل المتفجرة على المدن والبلدات.
- الإعدامات الميدانية والاختفاء القسري داخل السجون، وعلى رأسها سجن صيدنايا.
- حصار السكان وتجويعهم حتى الموت.
- تهجير أكثر من عشرة ملايين مواطن قسراً.
- سقوط ما يقارب مليون قتيل خلال أربعة عشر عاماً من العنف الممنهج.
إنها جرائم ترتقي بلا أدنى شك إلى مستوى الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وفق التعريفات الواردة في اتفاقية منع الإبادة لعام 1948، واتفاقيات جنيف، والقانون الدولي الإنساني.
قصص عائلات مثل السيدة “أم زيد” التي فقدت أبناءها الأربعة في صيدنايا، و”أم أيمن” التي ودّعت أبناءها وأشقّاءها بسبب السلاح الكيماوي، و”أبو بهاء” الذي يسأل: “هل قُتل أبنائي لأنهم سُنّة؟” — ليست إلا نماذج صغيرة من معاناة ملايين السوريين الذين ينتظرون العدالة.
الحاجة إلى محكمة جنائية سورية خاصة
إن تشكيل محكمة جنائية خاصة بجرائم الحرب والإبادة في سورية لم يعد مجرد مطلب حقوقي، بل ضرورة وطنية لحماية مستقبل الدولة ومنع انهيار المجتمع. ويمكن تلخيص أهمية هذه المحكمة في أربع نقاط رئيسية:
1. حفظ الذاكرة ومنع تزييف التاريخ
وجود محكمة وطنية ـ دولية مختصة سيُبقي الجرائم حاضرة في الذاكرة الجمعية، ويمنع محاولات تبييض صورة الجناة أو إعادة دمجهم في الحياة السياسية.
2. حماية السلم الأهلي ومنع الانتقام
حين لا تُحاسَب الأنظمة على جرائمها، يتحوّل الألم إلى كراهية، والكراهية إلى انتقام. المحكمة تُغلق باب الفوضى وتفتح باب القانون.
3. إنصاف الشهداء وأهالي الضحايا
لا يمكن بناء سورية الجديدة على مقابر مفتوحة وأسئلة بلا إجابات. العدالة هي الأساس الأخلاقي لأي مشروع وطني قادم.
4. نقل الحقيقة للأجيال القادمة
ستكون المحكمة وثيقة تعليمية وتاريخية تُظهر للأجيال ما حدث في سورية، ولماذا يجب ألا يتكرر.
متى تولد المحكمة؟
إن ولادة المحكمة الجنائية السورية الخاصة مرهونة بثلاثة مسارات محتملة:
أولاً: انتقال سياسي أو تغيير جذري في بنية السلطة
وهو السيناريو الذي يسمح لهيئة حكم انتقالية بطلب إنشاء المحكمة رسمياً، كما حصل في رواندا ويوغسلافيا.
ثانياً: توافق دولي عبر مجلس الأمن
غير أن الفيتو الروسي ـ الصيني لا يزال عائقاً أمام هذا المسار.
ثالثاً: إنشاء محكمة مختلطة (Hybrid Court)
وهو النموذج الأقرب للتحقق، بحيث تضم قضاة سوريين ودوليين، وبصلاحيات مستمدة من القانونين المحلي والدولي، على غرار محكمة سيراليون والمحكمة الخاصة بلبنان. إن المحكمة ليست خياراً سياسياً يمكن تجاوزه، بل استحقاق تاريخي سيولد فور توفر أول فرصة سياسية حقيقية. فالجرائم التي ارتُكبت في سورية أكبر من أن تُدفن وأثقل من أن تُنسى.
العدالة ليست ترفاً… إنها بداية التعافي
عندما تنهض سورية من الركام، ستكون العدالة أول شرط لبناء الجمهورية الجديدة. وستكون المحكمة الجنائية السورية الخاصة بالإبادة الجماعية حجر الأساس للعدالة الانتقالية، ورسالة للعالم بأن السوريين لم يقبلوا الظلم ولم ينسوا حقوقهم. إن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت. وستأتي اللحظة التي يفتح فيها السوريون أبواب محكمتهم الجنائية، ليبدأ زمنٌ جديد… زمن الحقيقة.






