في زمن لم يعد فيه الصوت الأعلى للأفكار ولا للعقلاء، بل للهواتف المحمولة المضيئة بالشاشات فائقة السطوع، يساق الرأي العام نحو المجهول بقبضة «تيكتوكرية» و«فيسبوكية» سريعة الانتشار وكأنها فيروسات مقاومة لأشد المعقمات فتكا. أصبح كل من يملك حسابا بآلاف المتابعين يرى في نفسه محللا سياسيا، أو خبيرا استراتيجيا، لا فرق لديه بين البث المباشر لقضية وطنية معقدة، وبين مشاركة آخر اخبار الراقصة سما المصري.
السياسة، كما يعرفها التاريخ وكما تصنعها الأمم، ليست نكتة ولا مادة جاهزة لتتصدر الـ«ترند». إنها خلاصة عقود من الفكر، والخبرة، والتخطيط بعيد المدى. السياسة تعني دراسة المصالح الوطنية، والبحث في جذور الصراعات، والنظر إلى عواقب القرارات عشرات السنين إلى الأمام، وابحاث ودراسات واستقصاء وتدوين.. بينما التيكتوكرية، ومن خلفهم الإعلام المدفوع، يختصرونها في ثوان معدودة من السطحية المضحكة والمواد الفارغة التافهة.
وهم العناوين الرنانة
عندما تجد مشعوذاً أو منجماً يتنبأ بمصير بلد كأنه ينظر في كرة بلورية، اسأل نفسك: من الذي يلقن هذا المنجم (رسائله المستقبلية)؟ ليس هناك من علم في هذه النبوءات سوى فصول مسرحية مدروسة تكتبها مكاتب استخباراتية، تهدف لتهييج الجماهير، وتشتيت الرأي العام. إنها ليست مصادفة أن تنطلق هذه التنبؤات عبر وسائل التواصل والقنوات الدنيئة المدارة من تلك الاستخبارات، التي أصبحت ملعبا مفتوحا لصراع المعلومات..
سوريا، نموذج التعقيد والتشويه
إن الشأن السوري، بما يحمله من تاريخ معقد وصراع دولي وإقليمي مرير، يُدار على طاولة السياسة الهادئة وليس على حسابات “لايف” في الـ”فيس بوك”. بينما يروج بعضهم لأخبار الانتخابات المبكرة، أو مشاريع دستورية مستحيلة التنفيذ، أو بيانات مجهولة المصدر تُبنى عليها تحليلات وهمية، نرى أن كل هذا لا يصب إلا في صالح تعقيد المشهد أكثر.
كم مرة قرأنا بيانا مبهما في وسائل التواصل، أو شاهدنا بثا مباشرا لتيكتوكر ينفعل وهو يتحدث عن حلول سحرية وكأنه يدير جلسة مجلس أمة افتراضية؟ المشكلة ليست في الأشخاص فقط، بل في عقلية المتلقي الذي يأخذ من هؤلاء الأخبار وكأنها حقائق لا جدال فيها، في حين يهمل المصادر الحقيقية وصناع القرار وأهل الاختصاص ومن ثم يأتي المتلقي كأنه فاتح الاندلس ويقول لك «معلوماتي من مصادر مطلعة او موثوقة».
الخرا… ب الإعلامي: كيف يصنع؟
هذا الإعلام الجديد، الذي يقوده أبطال العالم الافتراضي، لا يملك لا الصبر، ولا الخبرة، ولا الدقة. إنهم يقفزون فوق سنوات من نضال الشعب، يتجاهلون تعقيدات الجغرافيا السورية وتركيبة المجتمع والسياسة، ويبنون آمالا وهمية في عقول الناس، تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم التغيير الفوري.
أي خرا… ب بخرا…ب أكبر من أن تبنى آمال أمة على تصريحات لا مصدر لها؟ أي كارثة أكبر من أن نساق وراء محتوى مدفوع هدفه تدمير البنية الفكرية لشعب ناضل طويلا؟
عقلانية وحذر
ليس رفضاً للإعلام الجديد في حد ذاته، بل رفض للعبثية التي تجر المجتمعات إلى الفوضى. على السوريين خاصة، والعرب عامة، أن يفهموا أن بناء مستقبلهم لن يتم على أيدي نجوم «السوشيال ميديا»، بل من خلال نخبة وطنية تفهم التاريخ والجغرافيا والسياسة. علينا أن نكون حذرين من الأخبار مجهولة المصدر، من الوعود الوهمية، ومن التحليلات التي لا تستند إلا إلى تصفيق الجماهير في التعليقات ومتعتهم في التكبيس.
سوريا ليست «ترندا»
سوريا ليست ساحة لمغامرات إعلامية. سوريا تحتاج إلى عقول تفكر بهدوء، لا.. إلى أصوات تصرخ على تيك توك. وتحتاج إلى استراتيجية طويلة الأمد، لا.. إلى مقاطع فيديو قصيرة. إن الانجراف خلف هؤلاء لن ينتج إلا مزيدا من الخرا… ب السياسي في طريق بناء سوريا المستقبلية، فاحذروا أن يتحول الوطن إلى مجرد هاشتاغ عابر.
إدارة المرحلة الحالية بحكمة
في الختام أود أن أوضح التالي: إن إدارة المرحلة الحالية في سوريا تتطلب عقلانية وواقعية بعيدا عن الشعارات الفضفاضة والأحلام المستعجلة. الاستعجال في القضايا المصيرية، والرضوخ لضغوط «الترندات» و«المحتوى الإعلامي السريع»، لن يؤدي إلا إلى تكريس الانقسام وتعقيد الأزمات.
إن مستقبل سوريا لا يبنى على استعجال الحلول السطحية، بل على الصبر والحكمة، وعلى عمل وطني مشترك يعيد للسوريين وحدتهم، وللدولة قوتها، بعيدا عن عبثية التيكتوكرية والفيسبوكية التي تسعى لبيع الأوهام على حساب الحقيقة والمصلحة الوطنية.






