من خلال متابعتي للملف الجنوبي، يبدو أن الجولان لم يعد مجرد أرضٍ محتلةٍ على هامش الصراع، بل مساحة تتحرك فيها إسرائيل بهدوءٍ مدروس لتثبيت واقعٍ جديد. فالتصريحات التي صدرت مؤخراً في تل أبيب حول توسيع المستوطنات وتكثيف الدعم الاقتصادي في الجولان لم تكن مجرد خطط، بل خطوات تمهيدية لتغيير المشهد على الأرض، خطوة بخطوة، تحت ستار «التنمية والاستثمار».
في الظاهر، تبدو هذه التحركات تنموية، لكنها في جوهرها مشروع تثبيت احتلالٍ وتجميد احتمالات الحل النهائي. إسرائيل تحاول خلق واقعٍ ديموغرافي يجعل الجولان «ملفاً منتهياً» أمام أي مفاوضات مستقبلية، بحيث يصبح من المستحيل عملياً إعادة المنطقة إلى السيادة السورية، حتى لو أقرّ العالم بحقها القانوني.
إنها تلعب لعبة الزمن: بناء بيوت ومدارس وطرقات ومزارع ومستشفيات، وكل ذلك في منطقة كان يُفترض أن تبقى مؤقتة تحت احتلالٍ غير شرعي. ومع مرور الوقت، يتحول «المؤقت» إلى دائم، و«الاحتلال» إلى أمرٍ واقع.
أما خلف الكواليس، فهناك سياسة شلّ الجنوب السوري عبر الضغط الاقتصادي والأمني المتكرر، بحيث تبقى القنيطرة منطقة رخوة، لا هي مستقرة بما يكفي لتنهض، ولا مشتعلة بما يكفي لتثير ضجة دولية. فالمناطق التي تعيش بين الخطر والهدوء تشكّل البيئة الأنسب لتقدّمٍ بطيء لإسرائيل، يمرّ بلا انتباه.
لكن السؤال الجوهري هو: كيف يمكن للحكومة السورية الجديدة أن تواجه هذا النوع من التحدي؟
ليس بالسلاح وحده، ولا بالشعارات، بل بإعادة الإنسان إلى مركز السيادة.
فالسيادة اليوم لا تُقاس بعدد الجنود على الأرض، بل بعدد المدارس المفتوحة، وشبكات الكهرباء التي تعمل، والناس الذين يختارون البقاء لأنهم يجدون في دولتهم ما يحمي كرامتهم وعيشهم.
الردّ الذكي يبدأ من الحياة اليومية، من إحياء القنيطرة كمجتمع لا كحدٍّ على الخارطة.
حين يشعر السكان أن الدولة معهم في كل تفصيلٍ من تفاصيل يومهم، يصبحون هم خطّ الدفاع الأول، لا لأنهم يحملون السلاح، بل لأنهم يرفضون بيع الأرض التي تطعمهم، أو الهرب من بيتٍ فيه كهرباء ومدرسة وشارع مضاء.
ولذلك، فإن أولى الخطوات التي يجب أن تعتمدها الحكومة ليست إطلاق الوعود الكبرى، بل المبادرات الصغيرة الفاعلة:
-
تأهيل البنية التحتية الأساسية بتمويل مباشر من الخزينة لا من المنظمات، وإحياء كل قطعة أرضٍ هناك.
-
إطلاق مشاريع سريعة التشغيل في الزراعة والطاقة البديلة والبناء، ودعم السكان للنهوض بالمحافظة ككل.
-
تمكين الإدارات المحلية بصلاحيات اقتصادية، كي لا تبقى كل صغيرةٍ وكبيرةٍ رهناً بالقرار المركزي في دمشق.
-
إعادة فتح قنوات التواصل المباشر مع الأهالي عبر الزيارات الحكومية المنتظمة والإعلام المحلي، لكسر الإحساس بالعزلة.
وفي الوقت ذاته، ينبغي التحرك دبلوماسياً بذكاء لا بانفعال.
بدلاً من الاكتفاء بتذكير العالم بقرارات الأمم المتحدة، على الدولة أن تطرح ملف الجولان بوصفه قضية إنسانية وأمنية في آنٍ واحد: أرضٌ يُحرَم أهلها من التنمية لأن الاحتلال يريدهم مجرد أرقام في معادلةٍ أمنية.
كما يمكن لسوريا أن تستثمر التناقضات الإقليمية والدولية الراهنة، عبر التنسيق مع القوى التي تخشى التوسع الإسرائيلي ذاته، لتشكيل حزامٍ سياسي يقي الجنوب من التحول إلى منطقة نفوذٍ دائمة لتل أبيب.
فإسرائيل لا تتوسع فقط لتأمين حدودها، بل لتأمين نفوذها المائي والزراعي والاقتصادي في منطقةٍ تملك مفاتيح نادرة من الجغرافيا والموارد.
اليوم، ما يحدث في الجولان ليس مجرد سياسةٍ حدودية، بل مقدمة لإعادة رسم الجنوب السوري.
وإن استمر الصمت الرسمي والتعامل البطيء، فقد نجد أنفسنا أمام واقعٍ يشبه الضفة الغربية: تآكلٌ تدريجي للسيادة دون معركةٍ واحدة.
إن الجولان والقنيطرة ليسا فقط حدوداً جنوبية، بل امتحانٌ لجدية الدولة في استعادة نفسها. وإذا لم تتحرك الحكومة سريعاً لإعادة بناء الحياة في هذه المناطق، فإن إسرائيل لن تحتاج إلى قذيفةٍ واحدة لتكسب الجولة المقبلة. سيكفيها أن تتركنا نغرق في الإهمال، ليصبح الفراغ هو السلاح الأقوى ضدنا. فحين تتجاهل الدولة أطرافها، يبدأ الوطن بالتفكك من الحواف. وما لم تبادر دمشق إلى تحويل الجنوب من هامشٍ إلى قلبٍ نابضٍ بالحياة، فستأتي اللحظة التي يصبح فيها الصمت الرسمي أخطر من القصف الإسرائيلي نفسه.






