عشية فوز القوتلي على العظم سنة ١٩٥٥ بدعم من المحور المصري الخليجي ضد المحور العراقي الأردني، ذهب الأمير فواز نوري الشعلان، والذي يُنسب إليه أشهر أحياء دمشق العريقة حيّ الشعلان، إلى مكتب أحمد عبد الكريم وتحت عباءته حقيبة “سمسونايت” مملوءة بالنقود وفتحها له على طاولة مكتبه قائلاً له: هذه هدية وقوفك جانب القوتلي. فكان رد عبد الكريم برفض المال السياسي وأن يغلق حقيبته ويغادر مكتبه. فتمعر وجه الأمير الشعلان غاضباً قائلاً: «والله يا حوراني ستبقى تركض وراء الرغيف والرغيف يركض أمامك»، وأردف قائلاً: «لو كنت تعلم من أين أتيت لما رفضت الهدية، كلهم أكبر وأهم منك». هذا الاقتباس من مذكرات الوزير أحمد عبد الكريم في كتاب سنين خصبة: ثمار مرة.
هذه القصة تلخص باختصار حقبة سورية بين الجلاء عن الفرنسيين وانقلاب البعث، والتي مهدت لقدوم البعث بسبب تجاذب محورين إقليميين ومن خلفهم محورين دوليين على سورية حينها: محور مصري – خليجي ومحور عراقي – أردني. وقد كان القوتلي محسوباً على المحور المصري – الخليجي حيث كانوا يلعبون به ككرة التنس وينعتونه شعبياً بالجمل! ويحركونه وفق مصالحهم، بينما هو لم يكن يدرك خيوط اللعبة العميقة وحجم سورية ومكانتها الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط؛ وأن من يحكم سورية يحكم المنطقة ويحافظ على عرشه، كما جاء بكتاب الصراع على الشرق الأوسط “لباتريك سيل”. فكانت قرارات القوتلي بمثابة انتحار ونحر لسورية حيث رماها بحضن السوفيات بعد رفض حلف بغداد الذي تشكل بعد جولة فوستر دالاس لاحتواء المدّ الشيوعي. ولو كان القوتلي فطن بما يكفي لأدرك خيوط اللعبة وأن من يدعمونه هم من سيورطونه وذلك برمي سورية بحضن السوفيات ودفعها لذلك دفعاً، حيث أيقنت السياسة الأمريكية بعد سلسلة من الانقلابات السورية أنه لا يمكن ترويض الشعب السوري إلا بحكم الحديد وأن الديمقراطية ستنتج دولة قوية صعب ترويضها، فكانت من حصة السوفيات. وتوّج ذلك القوتلي برمي سورية بحضن جمال عبد الناصر، حليف السوفيات ظاهرياً وأمريكا سراً، فكان ذلك بمثابة طلقة الرحمة في قلب نهضة سورية حتى اندلاع الثورة السورية اليوم. وما أشبه اليوم بالأمس مع اختلافات في تموضع القوى الدولية؛ فالاتحاد الروسي اليوم وريث السوفيات يعتبر شريكاً تابعاً وليس نداً لأمريكا بهندسة المنطقة كما كان في الحرب الباردة، والندّ الحقيقي اليوم هي الصين رغم محاولة التضليل والخداع الإعلامي المستمر أن روسيا ندّ لأمريكا. كما أن تركيا تلعب دور مصر زمن عبد الناصر؛ فقد دخل أردوغان أستانة بضغط أمريكي بعد الاعتذار لروسيا عن قصف الطائرة الروسية لإطالة عمر النظام البائد أطول ما يمكن، وقد تم ذلك. واليوم ترامب يحاول بتصريحاته المتكررة إيهام الجميع أن تركيا هي من حررت وهي من تقرر بسورية، ولكن الواقع والحقيقة يعرفها من حرّر ومن عطل، وغاية ذلك توريط العهد الجديد بسورية بالمستنقع الروسي وإفقاد الحكام الجدد حاضنتهم الشعبية التي التفت حولها وحافظت عليها كما تم توريطها مع السوفيات بالأمس، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر أنظمة تزعم حرصها على سورية! فالزيارة لروسيا لا يمكن أن تكون لولا ضغط ونصيحة الأتراك وغاية الأمريكان بذلك تكرار سيناريو الماضي والتخلُّص من أي التزامات أخلاقية وإنسانية تجاه الشعب السوري. وإذا كان ذلك شرّاً لا بد منه فيجب أن نكون مدركين أن بوتين رجل مخابرات أمريكية وأنه يمثل الدور الخشن مقابل الدور الناعم لأمريكا، وذلك بترتيب العالم في وجه أوروبا والصين وأنظمة الربيع العربي، أو يتم تحريك المعارضة الروسية ضده كما فعلوا عندما تلكأ بالدخول لسورية بعد جولات كيري–لافروف.
وعلى دمشق مطالبة روسيا بتزويد سورية بالغاز والنفط وتسليح الجيش السوري كتعويض عن جرائمهم بسورية؛ فالشهداء لم تجف دماؤهم بعد من القصف الروسي! وإذا تم الرفض وأبقت أمريكا حصارها على سورية فيجب التحرك باتجاه الصين؛ فهي اليوم تشكل قطب العالم وليس روسيا، وهي منذ سنوات شرعت بمشروع “الحزام والطريق” لربط الصين بالعالم بطرق برية وبحرية واقتصادية كي يصعب حصارها. وأمريكا تحاول اليوم تكرار سيناريو حصار أو إسقاط السوفيات مع الصين من خلال العالم العربي والإسلامي، ويجب أن تكون لدى دمشق أدوات كثيرة وليس فقط الأداة الروسية كي تضرب بالأداة المناسبة في الوقت المناسب بحسب سيناريوهات معدّة مسبقاً. ويجب أن لا تخسر الحاضنة الثورية التي لولاها لأطبقت الفلول على دمشق بعد أحداث الساحل والسويداء.