تشكل زيارة وزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني” إلى العاصمة الأمريكية واشنطن محطة مفصلية في تاريخ سوريا السياسي والدبلوماسي، إذ إنها تأتي كأول زيارة من نوعها منذ أكثر من ربع قرن، والأولى في حقبة ما بعد الأسد. هذه الزيارة تعكس تحولات جذرية في مقاربة دمشق لعلاقاتها مع الغرب، كما تكشف عن استعداد أمريكي لإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا بعد عقود من العزلة والعقوبات. ولا تأتي هذه الزيارة منفردة، بل تسبقها جولة دولية قام بها الرئيس أحمد الشرع قبل أشهر شملت الرياض وباريس، إضافة إلى لقائه التاريخي بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، على أن يشارك قريبًا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث يُتوقع أن يلتقي ترامب مجددًا. كل ذلك يشير إلى أن سوريا، بعد ثورتها ضد نظام الأسد، تعود تدريجيًا إلى الساحة الدولية بقوة.
الأبعاد السياسية
كسر القطيعة الطويلة: الزيارة تعني عمليًا عودة سوريا إلى الطاولة الدبلوماسية الدولية مع واشنطن، بعد أن كانت معزولة بشكل شبه كامل منذ اندلاع الثورة السورية، إعادة تعريف العلاقة مع أمريكا: اللقاءات مع مسؤولي الإدارة الأمريكية والكونغرس تشير إلى نية الطرفين فتح صفحة جديدة، قائمة على التفاوض حول الملفات العالقة، وعلى رأسها العقوبات والأمن الإقليمي، انعكاسات داخلية: على المستوى الداخلي، هذه الخطوة تمنح الحكومة السورية الجديدة شرعية إضافية، وتقدم رسالة قوية للشعب بأن البلاد تعود تدريجيًا إلى الساحة الدولية.
الأبعاد الاقتصادية
العقوبات الأمريكية: رغم رفع الرئيس ترامب الجزء الأكبر من العقوبات عبر الأوامر التنفيذية والتراخيص العامة، لا تزال بعض القيود قائمة، خصوصًا تلك المتعلقة بحقوق الإنسان والإرهاب. هذه الزيارة تفتح الباب لمناقشة رفع أو تخفيف ما تبقى. إعادة الإعمار: الانفتاح على واشنطن يفتح المجال أمام تدفق استثمارات محتملة ومساعدات لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة. الاندماج المالي: عودة التعاملات المصرفية والمالية مع النظام العالمي ستكون بمثابة خطوة إنقاذية للاقتصاد السوري، خصوصًا بعد إقامة منتديات استثمارية في دمشق والرياض وتوقيع اتفاقيات كبرى مع شركات خليجية وأوروبية لتطوير الموانئ والمطارات والبنية التحتية.
الأبعاد الأمنية والإقليمية
الاتفاق مع إسرائيل: الزيارة تأتي متزامنة مع محادثات سورية–إسرائيلية بوساطة أمريكية تهدف إلى إنهاء الغارات وسحب القوات، مقابل ترتيبات أمنية بضمانات دولية. قطع النفوذ الإيراني: بانتصار الثورة السورية، تمكنت دمشق من إخراج القوات الإيرانية من أراضيها، وقطع خطوط الإمداد إلى حزب الله، وهو ما مثّل ضربة قاضية للمشروع الإيراني في المنطقة. خارطة الطريق الثلاثية: أهمية هذه الزيارة ترتبط أيضًا بمتابعة تنفيذ خارطة الطريق السورية–الأمريكية–الأردنية، التي عالجت وضع السويداء، ومنحت قوات سوريا الديمقراطية مهلة حتى نهاية العام لإعادة تموضعها، وأتاحت القضاء على الفلول في الساحل في مارس الماضي. هذه التطورات تعزز وحدة الأراضي السورية واستقرارها. الاستقرار الإقليمي: أي تفاهمات في واشنطن ستؤثر مباشرة على الأمن في الشرق الأوسط، خصوصًا في ملف الحدود السورية–الإسرائيلية، والعلاقة مع لبنان والأردن والعراق. مكافحة الإرهاب: واشنطن تسعى للتأكد من التزام دمشق بمحاربة بقايا التنظيمات المتطرفة، وهو ملف سيحدد مدى عمق التعاون المقبل.
التحديات
القبول الشعبي: أي انفتاح على إسرائيل أو تنازلات قد تواجه اعتراضات داخلية قوية. المصداقية الدولية: المجتمع الدولي سيطالب سوريا بخطوات عملية قابلة للتحقق، خصوصًا في ملف الإصلاحات السياسية وحقوق الإنسان. توازن القوى الإقليمية: دول مثل إيران وتركيا قد ترى في هذا التقارب تهديدًا لمصالحها داخل سوريا.
البعد التاريخي
زيارة أسعد الشيباني تحمل أهمية إضافية لأنها تأتي بعد عدد محدود جدًا من زيارات وزراء الخارجية السوريين إلى واشنطن عبر التاريخ: عبد الحليم خدام (1974–1975)، فاروق الشرع (1993 و1999)، والآن أسعد الشيباني (2025). أما على مستوى الرؤساء، فلم يزر أي رئيس سوري العاصمة الأمريكية واشنطن رسميًا، ما يجعل الزيارة المحتملة للرئيس أحمد الشرع مستقبلًا – بعد خطابه المرتقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك – بمثابة الأولى لرئيس سوري في التاريخ الحديث إذا ما تحققت. تاريخيًا، آخر حضور بارز لرئيس سوري في المحافل الأمريكية الكبرى كان عبر الرئيس نور الدين الأتاسي عام 1967 في الأمم المتحدة، لكن دون زيارة رسمية للبيت الأبيض أو العاصمة واشنطن.
نيويورك مقابل واشنطن: الفارق الدبلوماسي ونقطة مرجعية على الهامش
من المهم التمييز بين الزيارات إلى نيويورك وواشنطن. نيويورك تمثل ساحة الأمم المتحدة، حيث اللقاءات غالبًا ما تكون على هامش القمم الدولية، ذات طابع جماعي أو متعدد الأطراف. أما واشنطن فهي العاصمة السياسية والدبلوماسية للولايات المتحدة، حيث تعقد اللقاءات الرسمية الثنائية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية. وبالتالي، لقاء الرئيس أحمد الشرع بترامب في نيويورك يعكس الانفتاح على مستوى دولي، لكن تبقى زيارة وزير الخارجية الشيباني إلى واشنطن حدثًا نوعيًا لأنها تحمل الطابع الرسمي الثنائي المباشر بين دمشق وواشنطن.
زيارة أسعد الشيباني إلى واشنطن ليست مجرد حدث بروتوكولي، بل هي إعلان عن بداية مرحلة جديدة في تاريخ سوريا السياسي. إنها فرصة نادرة لكسر عزلة طويلة، وفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. تزامنها مع جولة الرئيس أحمد الشرع في الرياض وباريس قبل أشهر، ولقائه بالرئيس ترامب، ومشاركته المرتقبة في الأمم المتحدة بنيويورك، يعزز صورة سوريا الجديدة التي تعود إلى المشهد الدولي بخطوات مدروسة. ومع ذلك، يبقى نجاح هذه الزيارة مرتبطًا بمدى قدرة دمشق على التوفيق بين الضغوط الدولية، المصالح الإقليمية، والتطلعات الشعبية للسلام والعدالة.






