منذ أن شرعت الدول في استثمار الموارد الطبيعية والمالية عبر إنشاء صناديق سيادية وتنموية، صار هذا النموذج رمزاً لاستراتيجية تحصين البلد ومستقبله. فكرة الصندوق ليست مجرد وعاء مالي، بل تجسيد لإرادة سياسية تُحوّل الموارد إلى ثروة دائمة، وتعيد تشكيل العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
كانت تجربة الكويت مع صندوق الأجيال القادمة عام 1967 بمثابة رائدة عربية، حين قررت اقتطاع عشرة بالمائة من عائدات النفط لصالح مستقبل أبنائها. هذا الخيار لم يكن سهلاً وقتها، ويأتي وسط حاجات تنموية ملحّة، لكنه نبع من رؤية طويلة الأمد تُدرك أن النفط مورد ناضب، وأن الوفرة يجب أن تُحوّل إلى استدامة. أسس الصندوق وأدارته على مدى سنوات الهيئة العامة للاستثمار، وتحول إلى شبكة أصول تمتد في العالم من خلال أسهم وسندات وعقارات وصناديق، مع هدف ثابت هو أن يعيش الكويتيون بعد النفط على عوائد أموالهم المستثمرة لا على آبارهم الناضبة.
إلى جانب ذلك، أنشأت الكويت الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية منذ عهد الاستقلال. هذا الصندوق يتجاوز دوره التنموي الخارجي بتقديم قروض ومنح للبنى التحتية في عدة دول، لكنه أيضاً عاد ساندًا للوطن من خلال دعم الإسكان المحلي عبر ضخ مئات الملايين لدعم بنك الائتمان ومشروعات الرعاية السكنية. هنا يتجلّى بوضوح أن للصندوق دوراً مزدوجاً: قناة دبلوماسية وأداة وطنية في آن.
أما النرويج فكتبت شكلاً نموذجياً مختلفاً حين أنشأت صندوق المعاشات الحكومي العالمي بعد اكتشاف النفط في بحر الشمال. بنموه الضخم ليتجاوز التريليون دولار، اختار أن يعمل بشفافية كاملة، حيث تُنشر تقاريره العلنيّة، وتحدد مدونة أخلاقية واضحة القطاعات الاستثمارية المسموح بها. في هذا النموذج، الأصل المالي محترم والعائد فقط هو الذي يُستخدم لدعم الموازنات، بما يجعل اقتصاد البلاد أقل تأثراً بتقلبات النفط وأكثر ارتباطاً بالاستدامة.
اليوم، تمضي سوريا في إطلاق صندوق التنمية السوري في ظروف ليست كما الكويت أو النرويج. إذ انطلقت من واقع الإعمار بعد الحرب، ومن سياق محلي ينبض بالمبادرات الشعبية. أُعلن عن الصندوق في الرابع من أيلول 2025 بمرسوم رئاسي، ورأس ماله بدأ بتبرعات أولية تُقدّر بنحو ستين مليون دولار. التحديات ضخمة، إذ يتطلب بناء الثقة شفافية صارمة ووجود هيكل حوكمي يمكنه إدارة التمويلات البديلة في غياب فائض نفطي. وفيما المواطن بحاجة اليوم إلى مياه وكهرباء وخدمات، يجب للصندوق أن يوزع الموارد بين الحالي والمستقبلي لضمان الاستدامة.
لكن هذا الصندوق لم يولد في الفراغ، فقد سبقت إطلاقه مبادرات محلية ألهمت بناءه. من أبرزها حملة “أبشري حوران” التي انطلقت من درعا نهاية آب 2025. في مدينة بصرى الشام الأثرية اجتمع الآلاف مع حضور رسمي وشعبي قوي، وانطلقت تبرعات تجاوزت ثلاثاً وثلاثين مليون دولار فور اليوم الأول، مع مساهمة حكومية بخمسة عشر مليون دولار على الأقل لتعزيز العطاء المجتمعي. هدفت الحملة لإعادة تأهيل المدارس والمراكز الصحية وشبكات المياه والبنى التحتية، مع إدارة شفافة وتنسيق حكومي–مجتمعي. هذه المبادرة حملت في طياتها درساً عملياً عميقاً: أن المجتمع قادر على التعبئة حين تُتاح له مساحة ومصداقية. نفس الشعار يجسده مشروع “دير العز” في دير الزور، الذي يعتزم جمع ملايين الدولارات لإعادة تأهيل المنازل والمراكز الصحية والزراعية، مبيناً أن الجغرافيا السورية بدأت تستيقظ على إرادة جماعية.
كل هذه التجارب المحلية تشكل نواة فكرية للصندوق الوطني الأكبر الجديد. هي عبّرت عن طاقة اجتماعية منسيّة، وروح فزعة شعبية حين تُرعى بالشراكة بين المجتمع والدولة. ما يجري في درعا ودير الزور ليس بديلاً للحكومة فقط، بل امتحان حي على إمكانية بناء قنوات تمويل مستقرة وشفافة تمتد من القاعدة إلى المركز.
وبين الكويت والنرويج وسوريا، تُظهر لنا السيناريوهات الثلاث أن الصندوق ليس فقط محتوى مالياً بل ظرفاً حضارياً. الكويت جعلت من صندوق الأجيال مظلّة لاستقرار الوطن، النرويج صنعت عقداً اجتماعياً أخضر وشفافاً، وسوريا اليوم تحاول أن تبدأ الرحلة من تحت الأنقاض، لبناء صندوق وطني يستحق تسميته «صندوق أجيال سورية». إذا استلهم الشفافية النرويجية والانضباط الكويتي، وانطلق من المبادرات الشعبية المحلية مثل “أبشري حوران” و”دير العز”، فقد ينجح، بعد عقدين، في أن يكون سنداً قائماً بذاته لأرضٍ وناس يعيدون بناء وطنهم.