الدول كالجسد؛ تحتاج إلى مناعةٍ تحميها من الأخطار، وتساعدها على التعافي السريع بعد أي مرض. لذلك تعتبر العدالة الانتقالية أهم عوامل مناعة الدولة في مرحلة التأسيس، وبمجرد الاستقرار وبناء المؤسسات تصبح العدالة الانتقالية العامل الثاني بعد المؤسسات.
فلا بدّ من الحفاظ على أهمية العدالة الانتقالية التي لن تصل الدولة إلى مؤسساتها القوية بدونها، ثم لا بدّ من حفظ أهمية العدالة ودورها بعد الاستقرار لأنها ستبقى آخر حصون الدولة وأصلب دروعها.
يمكننا القول اليوم إن العدالة الانتقالية قد بدأت، وأكثر من مليون شهيد، وكذلك ضعفهم من الجرحى، وثلاثة أضعافهم من المعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين ينتظرون الدولة السورية اليوم لتحاسب كل مجرم مُثبت عليه تهمة القتل والتعذيب والتشريد.
الحكومة الانتقالية التي منحها معظم الشعب السوري الثقة، تجسد عملها سابقاً بالمحاسبة الفردية، أمّا اليوم فهي ستبدأ بالمحاسبة الجماعية، فعليها أن تبدأ عملها بخطاب وفعل سياسي قانوني وطني منظم.
من واجب أولياء الدم المطالبة بمحاسبة أي مجرم، من أي طائفة كان أو أي مكوّن، وعلى المواطنين أن يساهموا ويساعدوا بما يخدم العدالة، فهم العصب الداعم لهذا المسار.
تشكيل هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية يهدف إلى “كشف الحقيقة حول الانتهاكات التي تسبب فيها النظام السابق”، وكشف المجرمين ومحاسبة كل من يثبت تورطه بانتهاكات سابقة ولاحقة، فالعدالة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وبهذا الشكل يكون البناء الصحيح للأوطان، فالعدل أساس الحكم.
في تصريح سابق لوزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني” قال فيه: “إننا ملتزمون بشكل كامل بتحقيق العدالة الانتقالية، وسنبني منظومة حكم تمنع النزاعات المستقبلية”.
واليوم، وزير العدل “مظهر الويس” في منشور له عبر منصة X،
أعلن ترحيبه بإعلان لجنة العدالة الانتقالية التي تضم نخبة من الخبراء والحقوقيين، وقال: “نعرب في وزارة العدل عن دعمنا لهذه الخطوة واستعدادنا للتعاون والتنسيق ضمن الأطر القانونية. نؤمن بأن تحقيق العدالة يتطلب تضافر جهود الجميع: المؤسسات الرسمية، المجتمع المدني، الضحايا والمنظمات المعنية.
وأشار إلى أن الطريق إلى العدالة طويلٌ وشاقّ، لكننا ماضون في مسيرتنا بخطى ثابتة نحو عدالة تستحقها سوريا وتليق بتضحياتها”.
هذا التصريح جاء بعد صدور مرسوم رئاسي بتعيين السيد عبد الباسط عبد اللطيف رئيس هيئة العدالة الانتقالية. وهو من مواليد مدينة دير الزور عام 1963. حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة حلب عام 1986. حاصل على شهادة دراسات عليا في العلوم الشرطية والقانونية عام 2008. شغل منصب مدير منطقة قامشلي في عهد النظام السابق. عمل ضابط شرطة، وانشق عام 2012 عن نظام الأسد. انضم إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وتولى منصب أمينه العام. تولى إدارة اللجنة القانونية في الائتلاف الوطني. عضو في اللجنة الدستورية السورية ضمن “هيئة التفاوض” المعارضة.
وكلف المرسوم عبد اللطيف برئاسة الهيئة، والعمل على تشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مهلة أقصاها 30 يوماً من تاريخ الإعلان.
أتمنى لأعضاء هيئة العدالة الانتقالية التوفيق في مهمتهم الوطنية. وحبذا لو قامت اللجنة بالاستعانة برجال القانون السوريين الذين عملوا طوال أكثر من أربعة عشر عاماً على ملاحقة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية حول العالم.
فخبرتهم المتراكمة، واطلاعهم العميق على دقائق تطبيق العدالة الانتقالية، يجعلهم قادرين على الإفادة بمثل هذه المهمة الحساسة.
العدالة الانتقالية تعني الاعتراف بحقوق ضحايا الانتهاكات السابقة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، مع العمل على جبر الضرر وتعويض المتضررين قدر الإمكان. فمنذ قيام مؤتمر الحوار الوطني ركز الجميع على أهمية العدالة الانتقالية وانتظرناها لتحقق أسمى أهدافها:
ملاحقة ومحاسبة المجرم الأول بشار الأسد وعصابته وأركان نظامه البائد. إنشاء محاكم مختصة للنظر في الجرائم المنظمة والممنهجة، على أن تخضع هذه المحاكم لرقابة دولية لضمان نزاهتها ومحاسبة جميع المتورطين في تلك الجرائم. تشكيل لجان تقصّي حقائق في كل منطقة، تتألف من شخصيات تحظى بثقة مجتمعية، للتحقيق في الجرائم التي ارتُكبت خلال الصراع. سد الفجوات التشريعية من خلال تطوير القوانين الخاصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لضمان عدم إفلات المجرمين من العدالة.
إصلاح القضاء وضمان استقلاليته عبر تطبيق مبدأ فصل السلطات، مما يضمن عدم تدخل أي جهة سياسية أو عسكرية في عمله. حل جميع القوى العسكرية غير النظامية وضمان خضوعها لسلطة الدولة، بحيث لا تكون هناك أي جهة فوق القانون، حتى لو كانت من القوى التي ساهمت في الثورة.
تشكيل مؤسسات قضائية مهنية تحظى بتوافق مجتمعي، وتتألف من مختصين ذوي كفاءة وخبرة، لضمان تطبيق الأحكام القضائية بحيادية وعدالة.
تعزيز دور الرقابة والتفتيش ومنح الجهات المختصة صلاحيات واسعة لمتابعة أداء مؤسسات الدولة، ومكافحة الفساد داخل القطاع العام. تفعيل القضاء الإداري ومنحه صلاحيات واسعة لمراقبة قضايا الفساد، والحد من عمليات الاختلاس ونهب المال العام، للقضاء على المحسوبية والفساد المستشري. تعويض المتضررين من خلال محاسبة الفاسدين والمجرمين في النظام السابق، ومصادرة أموالهم المكتسبة بطرق غير مشروعة، واستخدامها لتعويض عائلات الشهداء والضحايا، وفق قانون مكافحة الإثراء غير المشروع.