الخصومة بشرف لا تعني أن تتحول السياسة إلى مستنقع، ولا أن يُختزل الخلاف بين السوريين بحفلة ردح وتراشق وشتائم على مواقع التواصل، ما يجري اليوم أبعد ما يكون عن النقاش الوطني وأقرب ما يكون إلى سوق نخاسة، حيث تُباع المواقف وتشترى، وتُصاغ الروايات بحسب طلب الزبون.
الشارع السوري يعيش حالة انقسام واستقطاب طبيعية بعد حرب طويلة ونظام ساقط، لكن غير الطبيعي أن تتحول الخصومة إلى فعل انتقام، وأن تُدار بالعقلية نفسها التي أسقطت سوريا في الهاوية، فلول الأسد الذين يحنّون إلى الكرسي، والانفصاليون الذين يتعاملون مع الوطن كقطعة أرض في مزاد، والمرتهنون للخارج ممن لا يتخيّلون سوريا خارج وصاية عرّابيهم، وحزب المثقفين الجدد الذين يظنون أن تغريدة تصنع ثورة، وأصحاب دكاكين المعارضة القديمة الذين أفلسوا سياسياً لكنهم يصرّون على فتح “بسطاتهم” كل صباح… كل هؤلاء يمارسون خصومة بلا شرف.
والحقيقة أن الدولة الجديدة نفسها ليست بلا عيوب، ففيها أخطاء وتجاوزات لا يمكن إنكارها، نعم هناك ارتباك في إدارة الملفات، هناك قرارات غير ناضجة، وهناك غياب واضح أحياناً في الرؤية السياسية، لكن هذا لا يبرر تحويلها إلى هدف للتخريب المستمر، أو السعي لإسقاطها قبل أن تلتقط أنفاسها، سوريا اليوم لا تحتاج إلى من يضع العصي في الدواليب، بل إلى من يساعد على دفع العربة إلى الأمام، السوريون بحاجة إلى فرصة لتصحيح المسار، لا إلى المزيد من العبث والانقلابات المزيفة.
الأسوأ أن أدوات هذه الخصومة ليست النقاش والحجة بل التزوير والفبركة، يُراد للسوريين أن يتقاتلوا على الهوية والطائفة والعرق، وإنتاج خطاب الكراهية كأنه قدر أبدي، تُستخدم المظلومية كعملة رائجة، وتُباع الشعارات في بورصة الإعلام المأجور، إنها معركة لا تبحث عن الحقيقة، بل عن المزيد من الضجيج.
ومن يراقب الإعلام يكتشف أنه لم يعد أكثر من ماكينة غوغائية، حسابات وهمية بآلاف الدولارات، فضائيات تبحث عن أي عناوين مثيرة، صفحات تقتات على الإشاعات كأنها حقائق، لا يهم أن تدمّر سمعة أشخاص أو تُشعل نار فتنة أو تُكرّس وهماً جديداً، المهم أن يقال: نحن موجودون، نحن نعارض، نحن نصرخ.
المفارقة المضحكة أن هؤلاء جميعاً يتحدثون باسم “الشعب السوري”، أي شعب؟ الشعب الذي في المخيمات؟ الذي يبحث عن ربطة خبز؟ الذي يريد أن يعيش بسلام؟ لا ليس هذا الشعب، إنهم يتحدثون باسم “شعب خيالي” مُفصّل على مقاسهم، شعب موجود فقط في شعاراتهم وخطاباتهم، بينما السوري الحقيقي لا يجد من يمثله لا في قاعات المؤتمرات ولا في مسارح التغريدات.
الخصومة بشرف تعني أن تعارض من أجل الوطن، لا أن تعارض الوطن نفسه، أن تبني على الحقائق، لا أن تعيد تدوير الأكاذيب، أن تسعى لطرح بدائل، لا أن تعيش على ريع الشتائم، سوريا اليوم تحتاج إلى معارضة شجاعة وخصومة نزيهة تفتح أفقاً، لا إلى أباطرة صغار يقتاتون من دم الناس ويستثمرون في خراب وطن.
الخصومة بشرف ليست ترفاً، بل ضرورة لإنقاذ أي مشروع سياسي، أما الخصومة القذرة التي نشهدها اليوم، فهي لا تختلف عن الفساد الذي دمّر البلد لعقود، بل تعيد إنتاجه بوجوه جديدة وشعارات أكثر زيفاً، ومن أراد أن يعارض فليعارض لكن بشرف، لأن الوطن لا يحتمل المزيد من السمسرة ولا المزيد من المهرجين.