في اللحظة التي سقط فيها نظام الأسد في سوريا، وبدأت البلاد تفتش عن هويتها الجديدة، كان من المفترض أن يصعد صوت المثقف ليقود مرحلة الوعي، ويملأ الفراغ السياسي والاجتماعي القائم، بمشروع جامع عابر للهويات الفرعية، إلا أن المفاجأة كانت بانخراط جزء كبير من الطبقة المثقفة في تعزيز الانقسام، والارتهان للمنطق الطائفي أو المناطقي، وتكريس السرديات الجزئية بوصفها “حقائق مطلقة”.
تحوّلت المنصات الإلكترونية التي يديرها جزء كبير من المثقفين وصحفيين ونشطاء إلى أدوات تعبئة لا تقل خطورة عن أدوات العسكرة أو التدخل الخارجي، وأصبحت صفحاتهم ساحة لتصفية الحسابات، ونشر سرديات تستهدف شرائح مجتمعية، مما ساهم في تعميق الشرخ بين مكونات الشعب السوري بدل المساهمة في رأب الصدع.
في فضاء الإنترنت السوري اليوم، لا يكاد يمر يوم دون موجات من الشتم والتخوين والتصنيف الطائفي، تقودها العديد من الحسابات المحسوبة على “النخبة” الثقافية، وتُغذّى بخوارزميات منصات كبرى (فيسبوك، تويتر، وتيك توك) التي باتت تعمل على تضخيم المحتوى التحريضي بوصفه الأكثر إثارة وتفاعلاً.
وبينما تغيب الرقابة السورية الرسمية على هذه المنصات أو تعجز عن تنظيمها، تظهر بوضوح الأيادي الخارجية، التي تستضيف بعض هذه الحسابات وتسمح لها بالتحرك بحرية في إطار أجندات سياسية مبيتة، هذه الدول بما فيها دول أوروبية وإقليمية تدرك جيداً أن معركة الوعي أخطر من معارك الأرض، ولذلك توفّر غطاءً لحملات تشويه منظمة تستهدف أي مشروع وطني سوري جامع.
النتيجة المباشرة لهذه الحالة هي تدمير الثقة بين السوريين، وترسيخ صورة عدائية مسبقة في عقول الأفراد حول الطرف الآخر، المواطن السوري الغارق في معركة البقاء اليومي يجد نفسه في مواجهة مع كم هائل من الصور والمعلومات والمواقف، التي تُزرع فيه عبر الإنترنت وتُقدم له كحقائق مطلقة.
لقد أصبح من العادي أن تُستخدم عبارات التخوين والتكفير والاتهام بالخيانة والعمالة والارتزاق، في منشور عابر أو تعليق على خبر، هذا السلوك لا يعكس فقط هشاشة الوعي العام، بل أيضاً حالة من الإفلاس الأخلاقي لدى كثير من أولئك الذين يفترض أنهم مرآة المجتمع وضميره.
ما يُضاعف هذه الخطورة أن كثيراً من شباب الجيل الجديد، لا يملكون أدوات التحقق، ويأخذون هذه الخطابات على محمل الجد، فينشؤون في بيئة ملوثة بالكراهية والتمييز والتصنيف، مما يهدد بإعادة إنتاج الانقسام بدل تجاوزه.
وسط هذه الفوضى تبدو الحاجة ماسّة لإعادة تعريف دور المثقف في سوريا الجديدة، لا يمكن لمثقف أن يكون صوت غاضب أو مرتهن، بل عليه أن يعلو فوق الجراح، ويقدّم خطاباً جامعاً نقدياً إنسانياً، يتجاوز اللحظة ويفكر بالمستقبل.
المثقف الحقيقي اليوم هو من يبني لا من يهدم، ولا يختبئ خلف جدار الموقف الجاهز، هو من يدعو إلى الحوار لا من يحرض على الكراهية.
لقد دفعت سوريا أثماناً باهظة في حروبها السياسية والعسكرية، لكن الحرب الأخطر التي نخوضها اليوم هي معركة الوعي وفي هذه المعركة، لا يمكن للمثقف أن يكون متفرجاً أو مشاركاً في الخراب.