التهجير القسري في السويداء اليوم ليس حدثاً معزولاً أو محلياً فقط، بل هو امتداد مباشر لنهج حكم سوريا لعقود، هذا النهج الذي كان يُمارس عبر مركز القرار القديم، يعيشه السوريون الآن بأدوات جديدة، بعدما تغيّر رأس النظام وسقطت رموزه.
ما يحدث في السويداء من عمليات طرد وإحراق منازل المدنيين البدو ليس صدفة، بل هو فصل جديد في مسلسل طويل بدأ منذ أول صاروخ سقط على حي بابا عمرو قبل أكثر من عقد من الزمن، بينما تحاول سوريا لملمة جراحها بعد سقوط نظام الأسد، تعيد السويداء فتح ذاكرة لم تلتئم بعد.
رجال حكمت الهجري – الواجهة الدينية التي ظلت تحمي النظام في الجنوب – باتوا اليوم يمارسون باسم “الكرامة” و”الحماية” نفس السياسة التي مارستها السلطة القديمة باسم “السيادة” و”محاربة الإرهاب”، الضحايا تغيروا والوجوه تبدلت لكن الأسلوب هو ذاته: ارحل أو سنرحّلك.
في الأيام الأخيرة شهدت السويداء تصعيداً غير مسبوق استهدف المدنيين البدو عبر حرق منازل، إطلاق نار مباشر وتهديدات واضحة بالترحيل القسري، هذا التصعيد لم يكن عشوائياً، بل نفذ ضمن منظومة منظمة تقودها فصائل مسلحة تضم تحالفاً بين فلول ضباط النظام السابق وعناصر تابعة لحزب الله، وتجار الكبتاغون المحميين من بعض مشايخ الطائفة.
هذا التهجير رغم مظهره المحلي يعيد إلى الأذهان سلسلة من المحطات السوداء في تاريخ سوريا الحديث، عندما كانت سياسة التهجير أداة رسمية للسلطة المركزية: من داريا إلى القصير، الغوطة الشرقية، مخيم اليرموك، وريف حمص الشمالي، وحتى درعا والقنيطرة، كان النظام يُخلي مناطق بأكملها قسراً ويدفع أهلها قسراً نحو الحدود أو مناطق النزوح.
ما تغيّر اليوم ليس الأسلوب بل الواجهة، التهجير الذي كان يتم عبر صواريخ الطيران الروسي صار يُمارس اليوم عبر بنادق ميليشيات محلية، بدلاً من ضباط القصر الجمهوري، صار الشيخ حكمت الهجري وورثته الجدد هم القيادة الفعلية لهذه السياسة المحلية، لكن العقلية لم تتغير: لا تسويات ولا تعايش بل إخضاع أو طرد.
السويداء اليوم لم تخرج من منطق الأسد، بل هي امتداد حي له وإن تغيّر الرأس، وما يُمارس ضد البدو ليس اشتباكات أهلية، بل سياسة تهجير ممنهجة تتعامل مع مكون سوري أصيل على أنه غريب، متطفل، أو “خطر وجودي”.
مشكلة السوريين ليست فقط في شخص الأسد، بل في الدولة التي صنعها، والتي أنتجت أدواتها التي تعيد نفس الممارسات حتى بعد غيابه، سوريا لا تُبنى بمجرد إسقاط رأس السلطة، بل بمحاكمة العقل الذي جعل من التهجير أداة حكم، ومحاسبة كل من مارسها، بالأمس في الغوطة وحمص ودرعا واليوم في السويداء.